هي "ست الدنيا" كما وصفها الشاعر الراحل نزار قباني، هي "باريس الشرق ولؤلؤته" كما عُرفت في الستينيات من القرن الماضي.
كل هذه الألقاب وأكثر حملتها بيروت التي شكلت لوحة فنية ممزوجة بجمال مواقعها الأثرية وشواهدها التاريخية التي تعاقبت عليها حضارات الفينيقيين واليونانيين والرومان والعثمانيين، لتتميز بعمرانها التاريخي الذي يعود إلى أكثر من 5000 عام.
بيروت ومن موقعها الجغرافي على البحر الأبيض المتوسط شكلت نقطة التقاء الثقافات على اختلافها، ومن مينائها تتنفس وتقتات، ما شكل ركيزة لنهضة الحركة التجارية والثقافية والأدبية فيها.
للمزيد، اقرأ:
حرب المدن الخفية: تشويه المجال العمراني العربي
غير أنه منذ عصر الثلاثاء الرابع من أغسطس/آب 2020، لم تعد بيروت كما غنت لها فيروز "من قلبي سلام لبيروت وقُبل للبحر والبيوت". فالبحر الذي تغنت به حمل أشلاء جثثٍ روت دماؤها مياهه المالحة، أما المنازل فسويت أرضاً فوق رؤوس أصحابها. مشهد يعود بالذاكرة إلى الدمار الذي خلفته الحرب الأهلية (1975-1990) التي عانى منها لبنان الويلات، وكأنه مكتوب على محياه ألَّا يتنفس الصعداء.
بطرفة عين، خيم دمار شامل في سماء وأرض مدينة نابضة بالحياة. فاحت رائحة الدماء في كل مكان، وطارت الجثث إلى شوارع كانت عريقة قبل أن تمحى معالمها من لهيب الانفجار الذي طال العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020. وقد توسعت حدته ليدمر بيوتاً بيروتية عمرها آلاف السنين، باتت آيلة إلى السقوط حالها كحال دور العبادة التي سقطت أجزاء منها فوق رؤوس زائريها.
الحضارة في عين العاصفة
منذ وُجدت بيروت كانت حضارة ومنارة حاضنة للديانات والطوائف، وجامعة للمشايخ والرهبان في مشاهد وحدوية مختلفة. إذ تظهر أعمدة مساجدها وكنائسها ومزاراتها التاريخية والحيوية شامخة في وسطها، إلى أن حط بها الانفجار الكارثي في عين العاصفة، ما أضر بها بشكل مباشر حيث سقط ضحايا وجرحى ودمر عدد من هذه المرافق.
ومن أهم المزارات التاريخية والمراكز الحيوية ودور العبادة التي حل بها الدمار نذكر:
مرفأ بيروت: وهو أكثر الأماكن مأساوية ودماراً، حيث اختفت معالمه عن سطح المدينة من هول الانفجار الذي انطلق من عقر داره ليشل المدينة برمتها.
يشكل المرفأ موطئ قدم لبيروت وحجر زاويتها لكونه الميناء الرئيسي في لبنان، حيث يعانق ميناؤه ضفاف البحر الأبيض المتوسط ليصبح شريانها النابض بالجمال والحياة والاقتصاد والمال.
أنشئ المرفأ الذي تبلغ مساحته 1.2 مليون متر مربع في العهد الفينيقي. وفي عام 1894 وافتتح على مصراعيه أمام حركة الملاحة البحرية، نظراً لوقوعه في نقطة التقاء للقارات الثلاث وهي آسيا، وأوروبا، وإفريقيا، الأمر الذي جعله محطة دولية للاستيراد والتصدير إلى دول العالم المختلفة.
وقد تدرجت أهميته إلى القرن العشرين وخصوصاً في سبعينيات القرن، إذ اعتبر حينها أهم محطة للتجارة الدولية مع الدول العربية المحيطة. ويستقبل المرفأ سنوياً نحو 3100 سفينة، كما يرتبط بعلاقات مع أكثر من 300 ميناء دولي.
جامع محمد الأمين: تأسس في بداية الأمر زاوية صوفية عام 1853 حملت اسم "زاوية الشيخ محمد أبو النصر"، ذلك بعدما منح السلطان العثماني عبد المجيد (1839-1861) قطعة أرض للشيخ تقديراً لجهوده الدينية، لينشئ الشيخ زاوية للتعبد والتعليم الديني وإقامة الأذكار الصوفية. بعدها حول الشيخ الزاوية إلى جامع صغير حمل اسم "محمد الأمين" نسبة إلى رسول الإسلام محمد.
يقع المسجد في ساحة الشهداء في وسط العاصمة اللبنانية بيروت، ويطل على شارع الأمير بشير. يعتبر من أضخم مساجد لبنان وأفخمها، ويتسع لنحو خمسة آلاف شخص، إذ تبلغ مساحته 10700 متر مربع موزعة على أربع طبقات.
صمم الجامع بالطراز العثماني واللبناني، في حين صممت الزخارف والتفاصيل المعمارية بالطابع المملوكي، وفيه قباب مطلية باللون الأزرق اللازوردي، وأربع مآذن يمكن رؤيتها من عدة مناطق في بيروت.
ويضم المسجد ضريح الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي اغتيل في الرابع من فبراير/شباط عام 2005، وبات الجامع يشكل مزاراً لكل من يريد مشاهدة الضريح.
كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس: هي أقدم كنيسة في بيروت، تقع بالقرب من ساحة الشهداء في وسط المدينة. بُنيت على أنقاض كنيسة أنستسي الرومانية القديمة، وتشكل مقراً لمطرانية الروم الأرثوذكس في بيروت والأقاليم التابعة لها.
دمرت الكاتدرائية من جراء حدوث زلزال عام 551 وأعيد بناؤها خلال القرن الثاني عشر. كما دمرت بزلزال آخر عام 1759 ليعاد بناؤها من جديد بمذبح واحد مخصص للقديس جاورجيوس، لكنها انهارت بعد 3 سنوات. أعيد بناؤها على شكلها الحالي سنة 1772 وأصبحت بثلاثة مذابح.
تعرضت الكنيسة للحرق في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، لكن بعد انتهاء الحرب أعيد ترميمها وافتتاحها سنة 2003، كما تم افتتاح متحف أسفل الكنيسة سنة 2010، تعرض فيه الفسيفساء والمدافن القديمة.
قصر سرسق: يقع هذا القصر الأثري الذي بناه اللبناني نقولا سرسق في عام 1912، على هضبة حي الأشرفية في مدينة بيروت. في عام 1952 امتلكت بلدية بيروت القصر بوصية من صاحبه تفيد بوهبه بعد وفاته إلى البلدية، على أن يتحوّل متحفاً للفنون الحديثة والمعاصرة كما ذكر في وصيّته، ومن شروط هذه الوصيّة أن يكون رئيس بلدية بيروت مشرفاً على المتحف، وأن تدير شؤونه نخبة من الشخصيات البيروتية.
استخدم القصر بين عامي 1953 و1960 لاستضافة ملوك ورؤساء زاروا لبنان رسمياً، ليتحوّل القصر إلى متحف يضم نحو 5000 قطعة من الأثريات والمقتنيات الثمينة وأعمالاً فنية إسلامية تعود للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وذلك وفقاً لوصية صاحبه. ومنذ عام 1961 ينظّم فيه كثير من المعارض الفنية والأدبية لأعمال عدد كبير من الفنانين اللبنانيين والعالميين.
منطقة الجميزة: من الناحية التاريخية تعد المنطقة التي تقع ضمن منطقة الأشرفية من أول ضواحي بيروت التي تشكلت حول سور المدينة القديم. وكانت نقطة الوصل في بيروت بين مدن طرابلس وصيدا والشام. تتألف المنطقة من أربع مناطق عقارية تحدها مناطق المرفأ والصيفي والرميل والمدور.
يوجد في المنطقة درج أثري قديم يعد من معالم بيروت الأثرية. بني فيها أول مسرح عربي سمي بمسرح مارون النقاش. كما كانت المنطقة حرفية من ناحية إنتاج أجران الكبة ومشروب العرق والصابون.
ويعتبر شارع الجميزة الذي يمر بالمنطقة من أقدم وأطول شوارع لبنان عند إنشائه، إذ يضم الحي العديد من الأبنية الأثرية وشواهد تعود إلى حقبات مرت بها البلاد كالعثمانية والمملوكية والصليبية.
بيروت منارة الشرق
"هناك أضرار جسيمة خلفها الانفجار لكن أهم خسارة لبيروت ولبنان والبحر المتوسط هي تدمير معالم مرفأ بيروت التاريخي والحديث". بهذه الكلمات يصف المؤرخ اللبناني الدكتور حسان حلاق حجم الكارثة التي حلت على لبنان أجمع، بخاصة مرفأ بيروت.
وفي حديثه لـTRT عربي يقول: "المرفأ الذي كان يعمل منذ عهد الفينيقيين، والذي بلغ عمره أكثر من 4000 عام أصبح مدمراً بالكامل. بعدما كان يعتبر من أهم مرافئ البحر المتوسط، إذ أدى تطوره إلى نهوض بيروت ولبنان منذ أواخر القرن التاسع عشر، ذلك بعدما اهتمت الدولة العثمانية اهتماماً كبيراً بمرفأ بيروت وأنشأت بالقرب منه عدة مرافئ متخصصة، كمرفأ الخشب والبطيخ والبصل والأرز، وهي مرافئ مخصصة للسفن التي تحمل هذه المواد".
وحول المدة الزمنية والتكلفة المالية لعملية ترميم المرفأ، يشير إلى أن "هناك مشروعاً يدرس لترميمه تبلغ تكلفته نحو 16 مليار دولار أمريكي. ربما يحتاج من ثلاث إلى خمس سنوات على الأقل لإعادة إحياء هذا المرفأ الحيوي ليس لبيروت أو للبنان فقط، إنّما لحوض البحر الأبيض المتوسط والعالم، حيث يتصل هذا المرفأ بآلاف من المرافئ في العالم، وتزوره آلاف السفن للاستيراد والتصدير".
أما عن منطقتي الأشرفية والجميزة أحد أقدم المناطق البيروتية، فيؤكد حلاق أن "الأشرفية التي تضم منطقة الجميزة تحوي قصوراً تعود إلى مئات السنين. ويكفي أن نذكر متحف سرسق أو أبنية وزارة الخارجية اللبنانية. هذه المعالم هي مبانٍ تاريخية عمرها مئات السنين، كلها تضررت بشكل كبير".
ويجزم بأنه "ما من بيت أو معلم في بيروت إلا وتضرر في هذا الانفجار الهيروشيمي الذي وصل صداه إلى مختلف المناطق اللبنانية".
وفيما يتعلق بحضارتها وعراقتها التاريخية، يصف المؤرخ اللبناني بيروت بأنها "مجموعة مفاهيم ثقافية وعلمية وأكاديمية وحضارية. فمنذ العهد العثماني اشتهرت بيروت بالجامعات كالجامعة الأمريكية التي تأسست عام 1866 والجامعة اليسوعية التي بنيت في القرن التاسع عشر، إضافة إلى المدارس الراقية، وبالمستشفيات والثقافة والمطابع وإنتاج الكتب بدءاً من عام 1975".
بيوت عريقة مهددة بالزوال
"الخوف حالياً من أن تتم الاستفادة من هذا الحدث لهدم البيوت بحجة السلامة العامة بدلاً من ترميمها"، هي كارثة جديدة يمكن أن تحل على حضارة بيروت ومعالمها التاريخية بحسب إيلي سعد مسؤول مشاريع الهندسة والتنظيم المدني والمساحات العامة في جمعية "نحن".
وهي جمعية غير حكومية تعمل بقيادة الشباب لحشد متطوعين في جميع أنحاء لبنان للعمل من أجل مجتمع شامل من خلال حملات المناصرة التي تعزز الحكم الرشيد والأماكن العامة والتراث الثقافي. إذ إن الحفاظ على التراث من ركائز أهداف عملها الثلاثة.
مخاوف "نحن" من اندثار معالم بيروت التاريخية وفق ما قاله سعد في حديثه لـTRT عربي تعود "لدمار البيوت التراثية في الأشرفية والجميزة بشكل كبير، وذلك لأن هذه البيوت بنيت دون تنظيم لقدرة تحملها في حال وقوع زلازل، إضافة إلى عمر هذه البيوت الذي يصل إلى مئات السنين، والتي دمرها الانفجار بشكل كبير أكثر من المباني الجديدة".
ويضيف: "في هذه الحالة الوضع أصبح مخيفاً، فيمكن أن تنعكس التداعيات على المديين المتوسط والطويل بأن تستغَل بلدية بيروت والسلطة والمقاولون العقاريون حجة تضرر المباني من جراء التفجير لناحية استفادتهم في هدم البيوت، فهم يملكون صلاحية بهدم المباني التي تشكل خطراً على السلامة العامة من وجهة نظرهم".
ويرى سعد أن "واحدة من المشاكل التي تحدث ومن الممكن أن تجعل سيناريو الهدم وارداً، هي أن قانون البناء اللبناني في حال كانت الأرض التي تم عليها بناء البيوت القديمة التي عادة ما تكون صغيرة لا تكفي للاستثمار، يتيح دمج البيوت والعقارات الصغيرة إن كان عبر هدمها أو شرائها من أصحابها، كي تصبح هناك أرض واسعة يُقام عليها استثمار يؤدي إلى برج تجاري. وهذا الوقت هو أفضل فرصة لتحقيق ذلك لأن هناك العديد من البيوت المتضررة المتجاورة، بالتالي أصبح دمج العقارات وبناء أبراج أسهل من السابق".
وحول دورهم في عملية إغاثة المنكوبين، يشير إلى أن "متطوعي الجمعية يعملون حالياً على فتح الطرقات بشكل عام لكي تتمكن وسائل النقل المحملة بالمساعدات من المرور. كما أن هناك مباني كثيرة تحتاج إلى الترميم، وهنا سنفعل ما باستطاعتنا أن نقوم به الآن لأننا ضمن خطة طويلة الأمد، فمساعدة المواطنين هي هدفنا بشكل عام".
تنحت بيروت عن عرشها الجمالي الذي توجها بـ "سويسرا الشرق" بعدما أصابتها سهام غادرة في قلبها الذي كان نابضاً بالحياة والحضارة.
بيد أنه إذا لم يطرأ تغيير من قبل الشعب اللبناني لناحية التعاطي مع منظومة شؤونهم الحياتية والسياسية ليس فقط مع التراث، فإن بيروت ستشهد في المرحلة المقبلة عصراً من التعب قد لا تحمد عقباه.