تابعنا
في ظل التغييرات الأخيرة التي يشهدها العالم من توترات دولية في مناطق غنيّة بمحاصيل القمح، مثل أوكرانيا وروسيا، باتَ العالم بأسره يشهد زعزعة لسياسته الفلاحية.

في إطار الاستراتيجية الفلاحية الجديدة التي أطلقها المغرب تحت اسم "الجيل الأخضر 2020-2030"، قطع المغرب خطوات مهمة في قطاع الفلاحة والري لتحسين مردودية المنتج الفلاحي، بحكم أن المغرب ما زال بلداً فلاحياً، والعائد الاقتصادي لهذا القطاع يشكل جزءاً مهماً من الناتج المحلي الإجمالي للمغرب.

ومع تعاقب الجفاف والتقلبات الجيوسياسية للعالم والدول المنتجة للقمح، أظهر البرنامج الحكومي السابق الذي كان يحمل اسم "المغرب الأخضر" الذي أُطلق عام 2008 تخبطاً في تعزيز الأمن الغذائي الوطني، أما الآن فيبذل المغرب خطوات تُظهر امتلاكه سياسة عمومية فلاحية قويمة، تَمثّل في الانتقال إلى الحبوب المقاومة للجفاف كخطوة للاكتفاء الذاتي الفلاحي المرجوِّ في المغرب.

سياسة عمومية فلاحية لمواجهة التحديات الجيوسياسية

في ظل التغييرات الأخيرة التي يشهدها العالم من توترات دولية في مناطق غنيّة بمحاصيل القمح، مثل أوكرانيا وروسيا، باتَ العالم بأسره يشهد زعزعة لسياسته الفلاحية، وهو ما أكده الباحث في السياسات العمومية بجامعة محمد الخامس، سليمان صدقي، لـTRT عربي إذ قال إن "الإمدادات الغذائية مهددة بشكل خاص في دول الشرق الأوسط وإفريقيا بسبب اعتمادها الكبير على الحبوب الأوكرانية، وهو ما انعكسَ على غلاء السلع الغذائية في جميع أنحاء هذه المناطق بمعدل 30٪".

وهو الأمر الذي يتوافق مع طرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش الذي قال في سبتمبر/أيلول من العام الماضي بأن 44 مليون شخص في 38 دولة يواجهون "مستويات طارئة من الجوع".

ويرى الباحث سليمان صدقي أن "اتباع سياسات عمومية جديدة قائمة على الزراعات المقاومة للجفاف والحفاظ على الماء هي خطوة مهمة نحو تحقيق الأمن الغذائي المحلي".

وأكد ضرورة إجراء تقييم لمخطط "المغرب الأخضر" بقوله، "وُعد المغاربة من خلال المخطط بتحقيق الاكتفاء الذاتي غذائياً، ليجدوا أنفسهم أمام خطر الجفاف بفعل زراعة البطيخ والأفوكادو بدل القمح والذرة"، فبناء سياسة عمومية فلاحية جديدة حسب صدقي "لا يمكنها أن تكونَ مفيدة حقاً دونَ علمِ المسؤولين بأن المسؤولية مرتبطة بالمحاسبة".

سياسة فلاحية مقاومة للجفاف

أكد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بالمغرب في آخر تقرير سنوي له ضرورة بناء سياسة قائمة على التأقلمِ مع الوضع المائي الصعب الذي يشهده المغرب، وبناء سياسة زراعية قائمة على توافر الاكتفاء الغذائي المنشود، والذي عجز برنامج "المغرب الأخضر" عن تحقيقه.

وأوصى المجلس اعتماد أصناف متنوعة من الحبوب المقاومة للجفاف الدخن أو الذرة الرفيعة، واعتماد دراسات جدوى تدرس كيفية وسبل الاعتماد، مع الحرص على توفير كل الإعانات والتحفيزات المطلوبة لتطوير هذه الزراعات.

كما أكد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والذي يعد أعلى جهاز استشاري في المغرب فيما يخص القطاعات البيئية والاقتصادية والاجتماعية، ضرورة إعطاء مكانة مركزية للبحث والتطوير في مجال اختيار البذور والزراعات الأكثر مقاومة للجفاف، وطرق استخدام الأسمدة العضوية منها كبدائل، في تطوير تقنيات السقي والأساليب الفلاحية الأكثر ملاءمة لمناخ البلاد.

وهي سياسات متظافرة، الغاية منها وفق التقرير إصلاح ما يمكن إصلاحه من أجل تجاوز التلف الذي أحدثته السياسات الفلاحية المتعاقبة التي لم تراعِ أهمية ومركزية الماء، ومدى استنزاف بعض أنواع الفلاحات للثروة المائية للمغرب.

حبوب وأشجار مقاومة للجفاف

أعلن المغرب عبر المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة، والمعهد الوطني للبحث الزراعي، مؤخراً، عن تسجيل ستة أصناف جديدة واعدة من بذور الشعير والقمح الصلب المقاومة للجفاف والحرارة المرتفعة، من أجل استعمالها في قطاع الزراعة في المغرب.

وجاء ذلك على ضوء خطة "الجيل الأخضر" لوزارة الفلاحة المغربية الهادفة إلى تحقيق اكتفاء غذائي بحلول 2030 على مستوى محاصيل الحبوب، من خلال تعزيز البذور المعتمدة وتقديم أفضل الأصناف للمزارعين.

من بينها صنف القمح الصلب "نشيط"، أصدرهُ المعهد الوطني للبحث الزراعي سنة 2018، خصائص الجودة فيه جيدة، إذ تتراوحُ نسبة البروتينات فيه ما يقارب 15٪ ومؤشر اللون الأصفر يبلغ"27" ومدة الدورية الزراعية تتراوحُ ما يقارب 150 يوماً، بينما مردوديته في المناطق البور تقدر بما يقارب 59 هكتاراً، والمناطق شبه الجافة ما يصلُ إلى41 هكتاراً، والنوع "حمادي" الذي سُجّل سنة 2017 وعُمل به عام 2020 والذي تعد خصائص جودته كالآتي، نسبة البروتينات تقدر بـ13٪ ومؤشر اللون الأصفر يبلغ "32" على حين تصل مردوديته القصوى إلى 73 هكتاراً، وحبوب "مليكة" الطرية الذي فوّت عام 2020 وتصل مردوديته القصوى إلى 71 هكتاراً، ونوع "سنينا" الذي تصلُ مردوديتهُ القصوى إلى ما يقارب 63 هكتاراً، وغيرها من الأنواع التي تقاوم كلها، ذبابة هس والتبقّع السبتوري والصدأ البني والأصفر، ما يجعلها حبوباً تعد بمحاصيل وفيرة.

حسب ما أُورد من وزارة الفلاحة والتنمية القروية بأن الدولة المغربية تسعى إلى تعزيز القطاع الزراعي وقدرته على مقاومة التغيرات المناخية، وفي هذا الصدد يقولُ المهندس القروي الحسن الداحمو لـTRT عربي بأن "الدولة المغربية وفقَ سياستها الجديدة دعمت زراعات ذات قدرة على مقاومة التغيرات المناخية كأشجار الخروب والزيتون والأركان والصبار، بشكلٍ متوازٍ مع تطوير استعمال أصناف نباتية محسنة جينياً لمقاومة الجفاف، وخصوصاً الخاصة بالحبوب والأعلاف".

ويضيف الداحمو لـTRT عربي بأن "البذور المقاومة للجفاف مهمة بشكل كبير في التقليلِ من وتيرة الجفاف بالمغرب، وهي كما يمكن ملاحظته الأشجار والزراعات نفسها التي ورثها المغاربة عن أجدادهم، أمثال شجرة الأركان العريقة، لذا فإن العودة إلى أنواع المزروعات التقليدية بالمغرب خطوة مهمة لحماية الفرشة المائية بالمغرب".

وعلى ضوء ذلك اعتمدت وزارة الفلاحة المغربية سياسة زراعة مساحة تقارب 100 ألف هكتار من أشجار الخروب، و170 ألف هكتار من الصبار، و171 ألف هكتار من أشجار اللوز، ومليون هكتار من أشجار الزيتون.

الفلاحة المقاومة للجفاف حل لمشكلة العلف

وبحكم اعتماد المغرب على سياسة جديدة مرتبطة برفع منسوب اعتماد الحبوب المقاومة للجفاف، فإن قطاع تربية المواشي في المغرب قد يتأثر بهذه السياسة، وعلى ضوء ذلك يقول الطبيب البيطري الدكتور أنس برادة لـTRT عربي إن "أغلب المزارعين المغاربة من مربي الماشية يعتمدون على زراعات الحبوب من ذرة وقمح وشعير لتغذية حيواناتهم إضافة للأعلاف المركبة والمراعي الطبيعية وهو ما يستنزف الثروة المائية المغربية، لذا يجب انخراط المغرب في الزراعات المقاومة للجفاف، في سد النقص في توريد الأعلاف بسبب غلاء أسعارها أو شحّ المراعي، وأيضاً تطوير واستعمال أصناف نباتية محسنة جينياً مقاومة للجفاف".

وعما يتوافر من الحليب، يضيف الدكتور أنس برادة لـTRT عربي أن "المساحة المزروعة المسقية بالمغرب تنتج قرابة 70٪ من الحليب وطنياً، ما يعني أهمية الأعلاف المسقية في تأمين إنتاج الحليب المهددة مباشرة بالجفاف، وبالتالي انخفاض هذه المساحات المسقية سيهدد وفرة إنتاج الحليب واللحوم في السوق الوطنية، ما سيُلجئ الدولة للاستيراد لتزويد السوق المحلية، لذا فإن اعتماد الفلاحة المقاومة للجفاف يعدُّ حلاً مهماً إذا ما رُبط باستراتيجية قويمة للحفاظ على الماء".

إصلاح السياسة المائية قبل كل شيء

يتسم المغرب بقلة التساقطات المطرية وعدم انتظامها، إذ شهد سنوات متتالية من الجفاف، تتبعها سنوات مطرية قليلة تغطي جزءاً من النقص الذي يحصل بسبب توالي سنوات الجفاف، لذا وحسبَ بعضِ الخبراء فإن الاكتفاء بتطوير البذور واعتماد الحبوب المقاومة للجفاف خطوة مهمة، ولكنها غير كافية، بل هناك حاجة لاعتماد استراتيجية شاملة لحل مشكلة الماء بالمغرب.

وفي هذا الصدد قال المهندس الزراعي محمد لغزيل لـTRT عربي إن "هناك ضرورة ماسة من أجل تسريع وتيرة تنزيل البرنامج الوطني للتزويد بالماء الصالح الشرب ومياه السقي، وهذا ما أشار إليه جلالة الملك خلال اجتماع تتبّع البرنامج الذي عُقد مع الحكومة في 11 من أيار/مايو الحالي".

وأضاف المهندس لغزيل بأن الحل يحتاج إلى "الرفع من ميزانية برنامج الماء، وتسريع مشروع الربط بين الأحواض المائية لسبو وابي رقراق وأم الربيع، وبرمجة سدود جديدة لرفع قدرة التخزين، علاوة على تسريع مشاريع تعبئة المياه غير التقليدية، من خلال برمجة محطات لتحلية مياه البحر، وإعادة استعمال المياه العادمة المعالجة، وتعزيز التزويد بالماء الصالح للشرب في العالم القروي من خلال توسيع التغطية، وبالتوازي مع هذا، التعجيل ببرنامج مكافحة آثار الجفاف، هذا البرنامج الذي يُنفذ كل سنة حسب المناطق التي تضررت بشكل مباشر بآثار الجفاف".

وبخصوص اعتماد برامج وتقنيات المعلوماتية يضيف المهندس الغزيل لـTRT عربي بأنه "طوّر العديد من البرامج والتقنيات المعلوماتية التي تمكن من تتبع الوضعية المائية بالمغرب، ولعل أبرزها اعتماد الخرائط الجوية واعتماد مؤشرات التتبع كمؤشر NDVI، ما يجعل هذه البرامج ذات أثر حقيقي في مستوى الواقع، وهو الإحساس بالمسؤولية المشتركة بين جميع المتدخلين". ومنه فإن إصلاح السياسة المائية يعزز من قيمة اعتماد المحاصيل المقاومة للجفاف بالمغرب.

TRT عربي
الأكثر تداولاً