تابعنا
بتلاقحِ الابتكار العلمي والاستكشاف الجغرافي، بات بالإمكان تحقيق معادلة كانت صعبة، بل شبه مستحيلة عند غالبية البشر قبل عقود، وهي معادلة الحفاظ على العمل، واستكشاف العالم في آن واحد.

في عام 1974 ظهر كاتب الخيال العلمي، والمستكشف الإنجليزي آرثر تشارلز كلارك (Arthur C. Clarke) في لقاء مصوّر عبر قناة "ABC News"، قال فيه -وقد بدت أجهزة كمبيوتر ضخمة خلفه- إنّ الناس في المستقبل سيكونون قادرين على العمل من أيّ مكان جغرافي في العالم باستخدام أجهزة كمبيوتر صغيرة الحجم، وسيتمكّنون من الوصول إلى أيّ معلومات يريدونها وإنجاز مهامهم اليومية عبره.

كان ذلك بالنسبة لغالبية من استمعوا لكلارك بمثابة خيال علميّ وارد على لسان كاتب مهنته سرد هذا النوع من القصص، لكنَّ كلارك كان واقعياً أكثر من كونه خيالياً في ذلك التصريح، الذي يعد أول ما قيل في التاريخ حول ثقافة العمل عن بُعد.

كلارك، وفي ذلك الوقت، لم يخترع مصطلح "رحّالة رقمي"، على اعتبار أنّه كان يفكّر في سياق نتائج تطوّر الآلة، وليس اختراع ثقافة عمل جديدة أو وضع مصطلح لها. إلّا أنّه عبّر حرفياً عن معنى أن يكون الإنسان "رحالة رقمياً Digital Nomad"، المصطلح الذي دخل حيّز الاستخدام سنة 1997، عندما ظهر كتاب جديد حمل هذا المصطلح عنواناً له، لرائد الأعمال على الإنترنت تسوغيو ماكيموتو والكاتب ديفيد مانرز، الذي يمكن اعتباره ابتكاراً ثقافياً مواكباً لظهور شبكة الاتصال اللاسلكي "WiFi واي فاي" وانتشارها، التي كان لها الكلام الفاصل في قدرة العمل عن بُعد.

مَن هو "الرحّالة الرقمي"؟

ظهور "واي فاي" غيّر من ثقافة العمل في مكتب ومكان ثابت، وأتاح لمصطلح "الرحّالة الرقمي" أن يكون واقعاً وأكثر من مجرّد تخلٍّ عن حالة العمل المكتبية الكلاسيكية.

وحسب مَراجع عدّة، فالرحّالة الرقميون هم أشخاص يسافرون بحريّة في أثناء العمل عن بُعد عبر استخدامهم أدوات التكنولوجيا وشبكة الإنترنت، وهم مَن اتّبعوا أسلوب حياة الترحال، حيث ينتقلون من موقع إلى آخر ويبقون على اتصال رقمي يتيح لهم إنجاز مهامهم المطلوبة.

ولا ينطلق مبدأ "الرحّالة الرقميون" من فكرة العمل من المنزل فقط، بل العمل من أي مكان، ومن أي بلد، ووفقاً لذلك، ذهبت دلالات المصطلح باتجاه معنى أعمق، لتعني بشكل ما، تجاوز الحدود الجغرافية، وبالتالي القدرة على التخلي عن الانتماء الثابت لنظام إداري واجتماعي واحد.

وهذا المعنى يقاربه مصطلح "الرحّالة الرقمي" بصورته الحاليّة بعد مضيّ عقدين ونصف على استخدام المصطلح، ومضيّ نحو ثلاث سنوات على انتشار فيروس "كوفيد-19" الذي حوّل "الرحّالة الرقمي" بشكل من الأشكال إلى حالة مطلوبة وليست مجرّد خيار فردي.

وبتلاقحِ الابتكار العلمي والاستكشاف الجغرافي، بات بالإمكان تحقيق معادلة كانت صعبة، بل شبه مستحيلة عند غالبية البشر قبل عقود، وهي معادلة الحفاظ على العمل، واستكشاف العالم في آن واحد.

فاليوم العمل عن بُعد لم يعد أمراً استثنائياً، وفي حين تبقى هوية العمل والمسمى الوظيفي ذاته، كمدقق حسابات، أو مصمم أغلفة، أو كاتب، فإنّ أبرز صفات حياة "الرحالة الرقميين" هي العمل من أمكنة وفي ظروف متعددة ومتغيرة، والتردد المستمر على المطارات وشقق الإيجار محدودة المدة، وحتى التخييم والإنترنت الفضائي.

مهن متعددة وجغرافيا جاذبة

وطغت ظاهرة الرحالة الرقميين بعد وباء "كوفيد-19"، وباتت مثار اهتمام المراكز البحثيّة، والمواقع المختصّة التي تحاول من خلال رصد توجّه الملايين نحو العمل عن بُعد، البحث في ظواهر أخرى مرافقة لذلك.

ومنذ عام 2021 كان هناك أكثر من 35 مليون رحّالة رقمي عبر العالم. التضاعف الأساسي الذي طرأ على أرقام الرحّالة الرقميين، كان بعد انتشار فيروس "كوفيد 19"، خصوصاً خلال عامي 2020 و2021، حيث أُجبر الكثير من الموظفين على العمل عن بُعد اضطرارياً والبعض أُعجب بها، وجعلها نموذج حياة، رافضاً العودة إلى العمل المركزي بعد انتهاء فترات الحجر الصحّي.

ويمكن رصد هذه الزيادة بعدد الرحالة الرقميين بالقول إنهم شكّلوا 4.8 مليون شخص في الولايات المتحدة سنة 2018، ليصبحوا 11 مليوناً في 2021، حسب موقع "Broke Backpacker" المختص بالسفر والمغامرات.

وحسب الدراسات المذكورة في الموقع، يظهر أنّ غالبية الرحالة الرقميين يقيمون في شقق مؤجرة أوتيلات لفترة قصيرة، يحجزونها عبر البرمجيات والمجتمعات الافتراضية التي باتت تؤمِّن تلك الخدمات بسهولة وسرعة وأسعار منافسة.

وتذهب الإحصائيات أبعد من ذلك لتقول إنّ نحو 61% من الرحّالة الرقميين متزوّجون، وإنّ متوسّط أعمارهم هو 32 سنة.

وتتعدد مهن الرحّالة الرقميين، لكن هناك بعض المهن هي أكثر ما يحترفه أولئك الرحالة، وهي المهن المرتبطة بكتابة المحتوى بشكل عام والتسويق والإعلان والتصميم، ثم مهن البرمجة وتطوير المواقع الإلكترونية وتطوير تطبيقات الإنترنت والبرامج الخدميّة وغيرها.

تضاف إلى ذلك مهن إدارة وسائل التواصل الاجتماعي ومهن أخرى متعددة، الميزة التي تجمع بينها كلها إمكانية القيام بها بشكل كامل عبر الإنترنت، حسب موقع "ترافيلينغ لايف ستايل" الشهير.

وتتميّز المواقع الجغرافية التي يفضّلها الرحالة الرقميون عادةً بميزتين أساسيّتين، هما اعتدال أو انخفاض تكاليف الحياة في تلك المناطق التي يتنقّلون بينها، إضافة إلى الطقس الدافئ الذي يجذب أغلبهم للعمل، لتوفير إمكانية العمل في الهواء الطلق، يضاف إلى ذلك توفر الخدمات التقنيّة وشبكة الإنترنت السريعة.

وتحقق تلك المعايير معادلة السياحة والاستكشاف في أثناء ممارسة العمل، وتعدّ لشبونة البرتغالية وبالي الإندونيسية وريو دي جانيرو البرازيلية وتشاينغ ماي التايلاندية من أكثر المدن الجاذبة للعاملين عن بُعد، أما أكثر الدول التي يحمل جنسيّاتها الرحّالة الرقميون فتأتي الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وكندا في مقدمتها.

أن تكون رحالةً رقمياً

وتتجّه كبرى شركات التقنيات في العالم، بقوّة نحو إتاحة العمل عن بُعد لنسبة من موظفيها، بل بعضها شملت غالبية الموظفين بذلك، وهذا كان السبب الأساسي في تضاعف أرقام الرحالة الرقميين بعد وباء "كوفيد 19".

ويقول خبير النظم والبرمجيات عمران الشيخ نجار، إنّ "الأمر يتعلّق بدرجة أساسية بأن تتيح الشركة ذلك".

ويضيف الشيخ نجار في حديثه مع TRT عربي، أنّ مهنته أتاحت له العمل رحّالةً رقمياً، استقر في أكثر من بلد، ممارساً العمل نفسه، وتنقّل بين شركات عدّة مختلفة الانتماءات الجغرافية ما أسهم أيضاً في إمكانية تنقّله.

وينوّه مهندس أنظمة الذكاء الاصطناعي الشيخ نجّار، إلى أنّ "مايكروسوفت"، و"غوغل"، و"أمازون"، و"أبل" وشركات عملاقة أخرى مختصة بالتكنولوجيا، انتقلت بجزء كبير من أعمالها إلى الاعتماد على العاملين في منازلهم، وأتاحت لموظفيها ذلك، لكن ذلك حسب التركّز في فترات الحظر الصحي، ثم تحوّل فيما بعد إلى حالة تسريح موظفين من أولئك العاملين عن بُعد، الذين قلَّ الاهتمام بهم نسبياً بعد انتهاء فترات الحظر الصحي المرافقة لانتشار "كوفيد-19".

ويعمل الشيخ نجّار متنقلاً، منذ عام 2018 أي قبل عامين من انتشار الوباء، لكنّ فترات الحظر الصحّي الطويلة وفّرت له أعمالاً إضافية، إذ زاد الاعتماد على التقنيين العاملين عن بُعد حينها.

وفي معرض حديثه عن تحول العمل عن بُعد بشكل عام ليصبح خبرة مطلوبة، يلفت الشيخ نجار إلى أن ذلك "صار أحد الأسئلة التي نتعرّض لها في مقابلات التوظيف: ما خبرتك في مجال العمل عن بُعد؟".

أمّا ميزات الحياة كرحّالة رقمي، حسب الشيخ نجّار، فهي "إمكانية تغيير المكان، ليس فقط بين بلد وآخر، بل أيضاً بين مقهى وحديقة ومطعم وشرفة وما إلى ذلك مما يقضي على الرتابة والملل، ثم إنّ العمل عن بُعد بشكل عام أكثر مرونة في عدد ساعات العمل".

حيث إنه "من الصعب جدّاً العمل لمدّة ثماني ساعات أمام شاشة كمبيوتر، فالعمل عن بُعد يتيح تقليل هذا الوقت، وتخفيف أثره الصحي والنفسي والاجتماعي على العامل في المجالات التقنية"، وفق الشيخ نجّار.

ورغم الإيجابيات الكثيرة في رأي نجار، فإنّه يلفت إلى سلبيات العمل كرحالة رقمي، وهي المرتبطة بعدم وجود ضمان اجتماعي، أو تأمين صحّي، فـ"الشركة التي تمنحك حرية العمل عن بُعد، تأخذ منك مقابلها تلك الميّزات لتخفف من أعبائك عليها التي ستدفع الشركة مقابلها فيما لو كنت موظّفاً ثابتاً في مكاتبها"، حسب قوله.

ورغم أنّ عددهم ليس بقليل في العالم، فإنّ الأنظمة السياسية والاجتماعية ما زالت غير مواكبة في غالبية بلدان العالم لنظام عمل الرحالة الرقمي. وحسب الشيح نجّار، ليست هناك دولة تعطي فيزا مثلاً عندما تطلب العمل فيها كونك رحّالة رقمياً، كما لا توجد إقامات في البلدان للرحالة الرقميين بالمعنى الإداري.

ويؤكد أنّ البرتغال مؤخّراً مثلاً بدأت بإعطاء فيزا للرحالة الرقميين ليأتوا ويقيموا في أراضيها، ولعلّها أول دولة تفعل ذلك في القارة الأوروبية.

كما تطرّق الشيخ نجّار إلى صعوبة التعامل مع نظام الضرائب، وبالتالي صعوبة أو استحالة الحصول على الخدمات في كثير من الدول، "ذلك ما يبرر للكثيرين من الرحالة الرقميين أحياناً الحصول على إقامة طالب من خلال تسجيل دراسي في إحدى الجامعات لتبرير وجودهم في تلك البلدان، والحصول على خدماتها"، وفق تعبير الخبير الذي عانى من هذه التفاصيل كثيراً، خصوصاً في وجود عائلته.

ولا يتوقّع الخبير التقني تقدّماً ثورياً في المرحلة القادمة في عمل الرحالة الرقميين، بل يتوقع تقدُّماً بطيئاً، فما حصل خلال العامين السابقين كان تابعاً لانتشار "كوفيد-19"، أما القادم فهو مرتبط بتراكم الخبرات وتطوّر البرمجيات الطبيعي، وربّما بمزيد من التسهيلات في أنظمة الدول للتعامل مع الموظّف الذي قرّر أن يعيش حياته بحريّة، بعيداً عن سلطة الشركات التقليدية.

TRT عربي
الأكثر تداولاً