عندما كتب غابرييل غارسيا ماركيز روايته "الحب في زمن الكوليرا"، قال عنها: "إنّ الحب موجودٌ في كلّ زمانٍ ومكان، لكنّه يشتدّ كثافةً كلّما اقترب من الموت". وإذا كان عنوان الروايةِ يحمل نوعاً من التناقض -إذ إن من الغريب أن يجتمع الحبّ مع حالة وباءٍ في جملةٍ واحدة- فإنّ ماركيز يرى أنّ الحبّ لا يُصبِح ذا قيمةٍ ومعنى إلّا عندما يقترب من الموت. حينها فقط يصير حقيقياً جدّاً.
هل يمكن للحبّ أن يصمد على الرغم من الكوارث والأوبئة؟ هل يتغلّبُ العِشقُ على الخوف والتوتّر الناجمَين عن المرَض والشعورِ بالاقتراب من الموت؟
يُكابد البشرُ في العالم اليَوم الخوفَ في كلّ لحظةٍ من حياتهم. الخوفَ من الإصابةِ بفيروس كورونا. الخوفَ من أن يخترق الفيروس أجسادَ أقربائهم وأحبّائهم. الخوفَ من أن يكون هذا الفيروس المنديلَ الذي سيلوّحون به للعالمِ وهم يغادرونه إلى غير رِجعة. الخوفَ من الفقد. الخوفَ من الجوع. الخوفَ من المجهول.. أنواعٌ كثيرةٌ ومختلفةٌ من الخوف تسري في دواخلهم وتوثّر على حيواتهم وأيامهم وعلاقاتِهم.
الحبّ.. المقاومة والصمود
يُقال إنّ علاقاتِ الحبّ لا تبقى أبداً كما كانت في البداية. يأتي يومٌ ما وينتهي الحبّ، فتنكشِف حقيقةُ كلّ واحدٍ أمام الآخر. يتبخّر الشغف، ويبدأ المللُ في التسرّب إلى العلاقة رويداً رويداً. تتراكمُ مشاكلُ تافهة وتفاصيل صغيرة، فتُزيلُ عن الحبيب تلك الهالةَ التي كانت له في ربيعِ البدايات. أمّا عندما تظهرُ كارثةٌ ما، أو وباءٌ يهدّد كل البشرية، فإنّ الحبّ يوضَع أمام امتحانٍ صعب. امتحانُ الصّمودِ والاستمرار.
عندما ظهرت أولُ حالةٍ مصابة بفيروس كورونا في المغرب 2 مارس/آذار الماضي، كانت نبيلة لا تزال تعيشُ حياتَها بشكلٍ عادي، غير آبهةٍ بخطر الانتشار. تقرأ الأخبارَ هنا وهناك، وتتابع ما يحصلُ في العالم، ولم تكُن تتوقّع أن هذا الوباء الذي سيبدأ في الانتشارِ بشكلٍ مرعب سيؤثر على حياتِها الشخصية وسيضعُها أمام اختبارٍ مُرّ في ما يخصّ علاقتَها مع زوجٍها.
"لم نكُن نرى بعضنا كثيراً. في الصّباح يتكلّف واحدٌ منا بإيصال ابنتِنا الصغيرة إلى الحضانة، ثمّ يذهبُ كلّ واحدٍ منّا إلى عملِه، ولا نلتقي إلّا في المساء مُتعبَين. نتعشّى معاً ونخلُد إلى النوم"، تقول نبيلة في شهادتِها لـTRT عربي.
وتضيف: "عندما فُرِضَ حظرُ التجوال في البلاد، صارَ لزاماً علينا أن نعمَل عن بُعد، ونقضي اليومَ كلّه في البيت، جالِسَين في الغرفة نفسِها مع ابنتِنا. حينها بدأت تتكشّف المشاكل. خصاماتٌ لا طائلَ من ورائها على أشياء تافهة من قبيل: من عليه أن يهتمّ بالطفلة؟ من سيُعِدّ الغداء اليوم؟ ومَن مِنّا عليه أن يغسِل الأواني؟".
لكنّ أيّام الحجر الطويلة جدّاً والصعبة علّمت نبيلة وزوجَها أنّ الحبّ مقاومةٌ قبلَ كلّ شيء، مقاومةٌ للظروف مهما كانت قاسيةً ومستبدّة. الصّبرُ بلسمٌ للقلق، والإيمان تِرياقٌ للخوف. "في أوقاتِ المصائبِ نعرف قيمةَ الآخر في حياتِنا. من حُسنِ الحظّ أنّني وزوجي نفهمُ كيفَ يمكن لأشياء تافهة أن تؤثر على العلاقات، وكيف يمكن للقلق أن يجرَح الحبّ. نتحدّث عن ذلك كثيراً ونلجأ إلى التواصل المستمرّ من أجل الصّمود"، تُردِف نبيلة.
الحَجر الصحي كشَف حقيقة العلاقات
توجد أيضاً علاقاتٌ طافحةٌ بالمشاكل. مشاكلُ لا تُرى وسطَ زخَم الحياةِ اليومية، يطمرها الانشغالُ بالعمل والحياةِ الشخصية والركض المستمرّ من أجل تحقيق الذات. لكنّ الحجرَ الصحّي الذي فُرِض في عديدٍ من البلدان بسبب انتشار فيروس كورونا، كشَفها.
"أن تبقى مع شخصٍ واحدٍ وجهاً لوجه طول الوقت، أمرٌ مرعب"، تقول ميساء (اسم مستعار)، فلسطينية قاطنة بإسطنبول لـTRT عربي.
تزوّجت ميساء عام 2017 عن حبّ. وانتقلت هي وزوجها إلى تركيا بعد سنة من زواجهما بحثاً عن ظروف حياة أفضل. "لم نكن نرى بعضنا كثيراً. أذهب إلى الجامعة، بينما يعملُ هو من البيت. بعدَ أن فُرِض علينا لزوم منازلنا، صِرنا نقضي الوقتَ كلّه معاً، ومن دون أن نشعُر، رأينا كلّ مشاكلنا التي كنّا نتهرّب منها موضوعةً على الطاولةِ أمامنا، وصِرنا مجبرَين على مناقشتها وحلّها"، تردِف ميساء.
وتضيف: "أظنّ أنّ الفرصةَ سانحةٌ الآن للأزواج الذين يرغبون فعلاً في أن تستمرّ علاقاتهم، في أن يواجهوا مشاكلهم ويتعرّفوا إيجابيات علاقاتهم وسلبياتِها".
"اكتشفنا أننا لا نطيق بعضنا"
بحكم انشغاله الدّائم بالعمل، لم يكن محمّد (اسم مستعار) يرى زوجتَه كثيراً. فبينما تظلّ هي في البيت وتتكلّف الاعتناء بطفليهما، ينطلِق هو إلى عمله في الصباح، ولا يعودُ إلا في المساء. حتى أوقاتُ الفراغ كان يقضيها مع زملائه وأصدقائه في المقاهي. وعندما فُرِض الحجر الصحي وصارَ لزاماً عليه البقاء في البيت طول الوقت، اكتشف أنّ زوجتَه لا تُطيقه ولا هو يُطيقها.
"نتشاجر طول الوقت. هي قلقةٌ بسبب انتشار المرض وتخافُ أن ينتقل إلينا، بينما أشعر أنا بالاختناق بسبب الاضطرار إلى البقاء في المنزل طول الوقت. الأطفالُ يصرخون كثيراً، وهي لا تكفّ عن انتقاد كلّ شيءٍ أقوم به. تسألني باستمرار إن كنت قد غسلتُ يديّ إذا حدثَ وخرجتُ لاقتناء حاجياتٍ للبيت. في الكثير من الأحيان، يتطوّر الأمرُ إلى شجارٍ طويلٍ وممتدّ في الزمن. تشتكي من عدم قدرتِها على تحمّل طلبات طفلينا لوحدِها، وأشتكي من الملح الزائد في الطعام"، يروي محمّد جزءاً من يومياته.
ويضيف: "اكتشفنا أننا لا نطيق البقاء معاً أكثر من ساعتين من الزمن. ما باليد حيلة، انتهى الشغف والحبّ وأصبح كلّ ما يجمعنا هو الأطفال ومسؤوليات الحياة المشتركة".
في السياق نفسِه، كانت محاميةٌ بريطانية شهيرة قد حذّرت، في مقالٍ نُشِر في صحيفة Mail Online من أنّ فيروس كورونا سيؤدي إلى ارتفاع حالات الطلاق في المملكة المتحدة بسبب الحجر الصحي واضطرار الأزواج إلى قضاء هذه الفترة معاً.
تقول محامية الأسرة شاكلتون: "مع الحجر الصحي، يقضي الناس الكثير من الوقت في المنزل، ويميلون إلى دخول جدلٍ ساخن بسبب شيءٍ تافه، ويتسرّعون في الحصول على الطلاق".
الحبّ أقوى من كلّ شيء
وفي الوقتِ الذي يعاني فيه كثير من الأزواج من مشاكل وشِجارات بسبب الحجر الصحي، تعيشُ أحلام أجمل أيّام حياتِها بفضل الحجر الصحّي نفسِه.
"أريدُ من كلّ قلبي أن تنتهي هذه الجائحة، لكنّني أتمنى، في الوقت نفسِه، أن تمتدّ فترةُ الحجر"، تقول نُهى لـTRT عربي.
نُهى، البالغةُ من العمر سبعةً وعشرين عاماً والطالبةُ في سِلك الدكتوراه، تقضي أجمَل أيام حياتِها مع شريكها صابر. فمنذُ زمن ليس بالقصير، لم تُتَح لهما الفرصة لقضاءٍ وقتٍ طويلٍ معاً، بحكم انشغالات الحياة اليومية. اليَوم، وبعد أن صارَ لزاماً على الجميع البقاءُ في البيت لمحاصرة الوباء، سيجرّبان لأول مرّة أن يكونا معاً طول النهار، أن يتحدّثا عن كلّ شيءٍ وأيّ شيء، أن يتقرّبا من بعضهما أكثر، ويتعرّف أحدهما أكثر على الآخر.
"نقضي اليوم في الحديث، مشاهدة الأفلام، قراءة الكتب ومناقشة مختلف المواضيع. تعرّفتُ أكثر على ميوله وثقافته الواسعة. ساعدتُه في تعلّم الطبخ وإعداد الكثير من الأطباق، هو الذي لم يكن يدخل إلى المطبخ إلّا نادراً. يحكي لي أشياء عن طفولته وعائلته، أشياء لم أكن لأعرفها لولا الحجر الصحي"، تردف نهى.
وتضيف: "مثل جميع الناس، يصيبنا الملل أحياناً، وقد ندخل في خصاماتٍ تافهة، لكننا نستدرك بسرعة ونتذكّر أنّ حبّنا أقوى من كلّ شيء".