هناك قصة تُروى عن أخوين يتيمين أحدُهما أصبح مجرماً والآخر طبيباً معروفاً متميزاً في مجالِه! الظروف التي عايشها الاثنان كتنشئةٍ وإعداد تربوي كانت متشابهة لكليهما، لكن ما الذي جعل أحدهما يتفوق وينجح، أما الآخر فيصلُ إلى نقطة من الحضيض وينحرف عن المسارِ السليم!
إنَّها التربية الذاتية وبلا أدنى شك، هذا النوع من التربيةِ الذي لا دخل لأحد به سوى الإنسان نفسه، فهو بما أنه يعرفُ ما الذي سيكون عليه أو ما الذي يسعى إليه، فإنه يأخذ على عاتقه تربيتها من جديد، تربية تتفق وأهدافه وتطلعاته في الحياةِ! إذ يمتلك الرؤية الواضحة والخطة المناسبة التي تمكنه من السعي والوصول إلى ما يريد!
إذاً، دع نفسَك تتعرف على التربية الذاتية وكيف تتخلص من ترسباتِ التنشئةِ والتربية التي نشأت عليها، لتصنع ذاتك من جديد وفق رؤية تحكمها أنت لا غيرك!
هذا ما تتطرق إليه TRT عربي عبر طرح الأسئلة: ما التربية الذاتية؟ ما العوامل التي تؤدي إلى هذه التربية؟ كيف يتعامل الإنسان مع ذاته لتربيتِها؟ وكيف يواجه القوة الضاغطةَ الخارجية أثناء إصلاحه أو تربيته لنفسه؟ ومتى على الإنسان أن يلجأ إلى تربيةِ ذاته وفي أي وقت أو مرحلة عمريةٍ؟ كيف تنعكس تربية الذات على الذات نفسها؟
الارتقاءُ بالنفسِ
يقول أ. أحمد فرينة، وهو فلسطيني باحثٌ في التربيةِ وعلم النفس لـTRT عربي: "إن التربيةَ الذاتية تعني قدرة الإنسان على تحمل جانب الارتقاء بالنفس وتحسين توجيهها بمعزل عن تربية الأهل والمجتمع والمؤسسة، وغالباً هذا لا يحدث إلا في سنِ النضج أي بعد جملة تجارب وخبرات حياتية تؤهله للاستقلالية والتفكير الفردي".
ويؤكد: "بالتالي يجب ألا نغفل ضرورةَ التربية في سياق جمعي باعتبارها مكوناً أساسياً في التنشئة تلك التي ستضفي على الفرد صفات تمنحه القدرة على التحكمِ في تصرفاته دون توجيه باعتباره أبصر الناس بنفسه."
ويوضح: "يرجع اللجوءُ إليها تبعاً لحاجة فهم الذات بالاقتراب منها واكتشافها بحيث يستطيعُ معرفة مدى إمكاناته وقدراته ومعرفة أيضاً مدى قدرته على التفاعل في مختلفِ المواقف التي تواجهه يومياً ومن ثم الرجوع إلى نفسه ليبني فيها كل ما يحتاجه من مبادئ عقلية وقيم نفسية تعينه على قبول الآخرِ وفهمه والتعامل معه اجتماعياً بشكل صحي."
رفضُ القولبةِ وديكتاتورية التربية
وعن أهم الأسباب التي تدفع الإنسان إلى إعادة تربية ذاته يقول فرينة لـTRT عربي: "أهم الأسباب تتركز في قيمة الحرية لدى الإنسان السوي والحاجة إلى الاستقلالية برفض القولبة ومواجهة ديكتاتورية التربية الأبوية وطغيان سلطة المجتمع عليه، وأيضاً ليتفادى آثارَ ربما أحدثتها أحداث سلبية جمعته بأسرته ومحيطه، وبناءً على ذلك تشكلت لديه فكرة البحثِ والتفتيشِ في الذات".
يتابع: "وهكذا قررَ هذا الإنسان أن يأخذ على عاتقه جانب بناء الشخصية بصورة غير متكررة ومختلفة عن الصورةِ النمطية العادية ليصحح حياته وفق ما يريد هو لا كما يريد المجموع، ذلك بمواجهته السلبيات التي طغت عليه منذ صغرِه وتحديها ببناء معتقدات مستقلة مختلفة عن السائدة تجعله أكثر ظهوراً وبروزاً بين الناس وأكثر قدرة على التعبير عن موقفه دون شعور بالحاجةِ لموافقةِ غيره"
الوعيُ بالتغييرِ يقود التربية الذاتية
أما د. نجوى أبو عيد حكيم، معالجةٌ ومحللةٌ نفسية من لبنان، تقول لـ TRT عربي: "في وقتٍ ما، ينظر الشخص إلى نفسِه فيجد أن الطريقة التي يفكر بها والحال الذي يعيشه لا يتوافقُ مع رؤاه التي يتمناها ويريدها لنفسه، فمن هنا تبدأ نقطة الانطلاق نحو تغيير وإعادة تربية الذات"
تتابع: "يبدأ هذا مع الوعيِ والإدراك أن ما حول الإنسان في حياتِه هو "مكرر" أي أنه يدخل في علاقات سامةٍ مع كل متكرر، يدخل في فشل في عمله بشكل متكرر، وإذا خرجَ من علاقة أو ترك مشروعاً، فهو يعيدُ الكرة ذاتها، بالدخول إلى علاقات بالإكراه أو الإجبار، ومشاريع وأعمال وأشغال تحظى بالنتائج السابقة ذاتها، هنا يدركُ أن ثمة شيئاً ما خاطئاً يؤدي به إلى نتائج لا يرغب بها، فيبدأ برصدِ فجوات ذاته لاستنتاج مواضع الخطأ"
التربيةُ الذاتيةُ موجهةٌ إلى الطفل الداخلي
وتؤكد د. نجوي لــTRT عربي: "مفهوم التربيةِ ينطبق على الطفل، وعندما يقرر الإنسان في مرحلة عمرية ما إعادة تربية ذاته فهو بحاجة إلى أن يعبر إلى هذا الطفل الذي بداخله، ويقوم بمواجهته ليتساءل عن ِ وراء ما هو عليه والذي يكون سببه التنشئة الأسرية والمجتمعية، لهذا يمكن اختصارُ مفهوم تربية الذات بالمواجهة مع الطفل القابع في داخل الإنسان"
توضح د. نجوى "رحلة إعادة بناء الذات هي رحلة صعبة، ومواجهة أصعب، لأن الإنسانَ يتعرض بها إلى ضغوط داخلية وضغوط خارجية، فالقوة الخارجية الضاغطةُ تأتي من الناسِ والمحيطِ الذي يشاهد التغيرات التي تحدث للإنسانِ خلال إعادة بناءه لذاته، فتكون ردود الفعل محبطة أو سلبية، لأن هذا المجموع من الناس يريدُ للإنسان أن يبقى كما هو على النمط ذاته والطبع الذي اعتادوا أن يغيروه به، أما القوة الضاغطة الداخلية فتأتي من صوتِ الطفل القابع بالداخل وهويته والهوية الجديدة التي يريدها الإنسانُ لنفسه، فيعيش في صراعِ مما يسبب له ثقلاً نفسياً.
وعن تأثير تربيةِ الذات على الذاتِ نفسها تقول د. نجوى: "يظهر تأثير تربية الذات على الذات نفسها من خلال تجنب ما يسمى في علم النفس "التكرار".. أي تكرار الأسلوب ذاته الذي يؤدي إلى النتائج ذاتها مهما اختلف مضمون أو شكل هذا الموضوع، فالإنسان يكرر بوعي أو دون وعي ما تربى ونشأَ عليه، وفي اللحظةِ التي يبدأ بها في تربيةِ ذاته، يصبح أكثر تحكماً في قراراته ويوازن الأمور من مبدأ ما يريده هو لا ما تريده له الأسرة أو المجتمع وهو في هذه الحالةِ حرٌ ملك لنفسه لا لما هو سائد وشائع وهو ما ينعكسُ إيجابياً على الحياة العاطفية، المهنية، العلاقاتية"
وفي نهاية حديثها تختصرُ د. نجوى لــ TRT عربي تأثير التربية الذاتية بقولها: "هناك ثلاثٌ نقاطٍ رئيسية تؤثر بها التربيةُ الذاتية تأثيراً محورياً في حياة الإنسان وهي التكرار، التخلص من النكساتِ والإحباطاتِ، تفهم الآخرين. وهكذا يتجنب تكرار المواقف والعلاقات المدمرة ، كما يصبح أكثرَ قدرة على تجاوزِ النكسات الشعورية وما يتبعها من إحباط، ويأخذ ردود فعل الآخرين كأمر عابر فلا يتأثر بما يصدر عنهم من أقوال وأفعال وهو ما يؤدي في النهايةِ إلى إنسانٍ يتمتع بالصلابة النفسية"
إذن، تربيةُ الذات هي خطوةٌ جوهرية نحو النجاح في الحياةِ على مختلفِ الأصعدة، فعبرها يمتلك الإنسان رؤيتَه التي يريدها لنفسِه هو، ويعمل على تحقيقها رويداً رويداً، ويبدأ كل شيء بالتخلِي عما اعتاد عليه وبتجاهل ظروفه، والعمل نحو تحقيق نفسه بما يتفق معها، وفي سبيل ذلك يهون كل صعب، وهذا هو ما جعلَ أحد الأخوين يصبح طبيبًا، بينما العزاء كله للآخرِ الذي استسلم وتدحرج نحو جُرف الحياة فكان مجرماً، في النهاية ينطبقُ مفهوم التربية الذاتية على قول: "حياتُك من صنعِ يديك"..فهلا تصنعُ حياتك!