عاش اليمن تحت حكم الدولة العثمانية كما عاش من قبل تحت الحكم الأموي والعباسي. فقد ظهر العثمانيون في اليمن رسميّاً وأساسيّاً خلال مرحلتين، امتدت الأولى بين 1539 و1634 ميلاديّاً، والثانية من 1849 إلى 1918، إذ سعى العثمانيون لضمّ اليمن وتحرير موانيه من الاحتلال البرتغالي، الذي كان يحتلّ مضيق باب المندب وساحل البحر الأحمر. الأمر الذي زاد اهتمام العثمانيين الأمني والسياسي هو الوجود البرتغالي المنافس للعثمانيين في المنطقة وما يحمله من تهديد صريح لمكة والمدينة، بخاصة بعد أن تَوعَّد القائد البحري البرتغالي آنذاك أفونسو دي أبوكيرك باحتلال المدينة المنورة وإخراج رفات النبي. كان العثمانيون يدركون أن الجغرافيا اليمنية تشكّل عمقاً أمنيّاً استراتيجيّاً مهمّاً للجزيرة العربية ككل، وللبحر الأحمر ومنطقة الحجاز التي تضمّ الأماكن المقدسة كمكة والمدينة المنورة على وجه الخصوص، فقد كانت المناطق المقدسة في الحجاز تُعتبر عند العثمانيين مركزاً حيويّاً وثقافيّاً وروحانيّاً لا تقلّ أهميته عن مركز الدولة في إسطنبول.
عمل العثمانيون فور دخولهم اليمن، بخاصة بعد الدخول الثاني، على تطوير البنية التحتية في القطاعات كافة، إذ شيّد العثمانيون القلاع والمدن في المناطق التي كانوا فيها. ركز العثمانيون في أثناء وجودهم الأول في اليمن على ترميم المساجد والأماكن الدينية، فيما سعوا خلال الحقبة الثانية، بخاصة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) لتطوير البنى التحتية المتمثلة في المواصلات والمدارس والمستشفيات والطرق والحصون والقلاع. فقد أُنشئَت مستشفيات عسكرية في مدينتَي صنعاء وتعز، وأُنشئَت المكاتب الرشيدية والابتدائية، وفُتحَت المدارس الصناعية ودور المعلمين، وبُنيَت دار النسيج، وكذلك مدارس الأيتام.
حرص السلطان عبد الحميد على إنشاء المؤسسات التعليمية وتطوير بنيتها التحتية بأقصى قدر ممكن، فقد اهتمّ بإرسال الطلاب اليمنيين، بخاصة أبناء الطبقة الحاكمة وأبناء العشائر اليمنية، إذ أُنشئَت لهم مدرسة خاصة في إسطنبول سُمّيت مدرسة العشائر العربية. وكان الطلاب فيها يتلقّون تعليمهم لمدة خمس سنوات، تُوَفَّر لهم خلالها الخدمات والمصاريف التي يحتاجون إليها.
وكان من أهمّ هذه المعالم التي ما زالت قائمة وقيد الاستخدام، دار الصنائع المعروفة بالمتحف الحربي حالياً، وكلية القيادة والأركان التي تقع في منطقة الميدان، وأيضاً مجمع العرضي الذي يُستخدم مبنىً لوزارة الدفاع، المشتقّ اسمه من الكلمة التركية "أوردو" بمعنى "المعسكر" أو "ثكنة الجيش". ويُعتبر مجمع العرضي من أهمّ المعالم العثمانية في اليمن وأشهرها على الإطلاق، وهو عدة بنايات تقع في مكان واحد، وتُسمَّى هذه البنايات "القشلة". وقد وُوفِق على إنشائه في عهد السلطان عبد الحميد عام 1881م، وامتدّ بناؤه على فترات متعاقبة، على يد البنَّاء اليمني الكبير أحمد بن أحمد قصعة، الملقب بـ"الأسطى باشا"، حتى تم تشييده بالكامل عام 1903م. وقد خضع المبنى للترميم عام 2001م، وكان يُستخدم مقرّاً لإدارة الجيش العثماني في اليمن.
بالإضافة إلى الاهتمام بقطاع المواصلات والطرق التي تُعتبر من أهمّ المشاريع التي اهتمّت بها الدولة العثمانية في آخر عقودها في اليمن وفي المنطقة التي تخضع لحكمها، لم يكن اليمن بمنأى عن الخطط الإصلاحية التي شملت المنطقة التي تَبنَّاها السلطان عبد الحميد لإعادة إعمار وتطوير المنطقة من جهة، ومن جهة أخرى محاولة منه لاستعادة الثقة لدى شعوب المنطقة التي كانت بدأت تثورعلى السلطات العثمانية بسبب تردّي الخدمات وانتشار الفقر، بتشجيع من بريطانيا، إذ كشف بعض الوثائق العثمانية الخاصة باليمن، أن السلطان عبد الحميد الثاني أصدر قرار إنشاء سكة حديد تربط بين المدن اليمنية وخطوط السكك الحديدية خارج جغرافيا اليمن، كالسكة التي كانت تربط بلاد دمشق والحجاز لنقل الحجاج، والتي أُنشئَت ما بين عامَي 1900م و1908م، بطول 1300 كيلومتر. في الوقت ذاته أظهرت وثائق من عام 1888م أن السلطان عبد الحميد وافق على إنشاء تلغراف يمتد من جدة إلى مدينة الحديدة غربيّ اليمن، كما كشفت وثيقة وُقّعت عام 1891م، إنشاء تلغراف آخر يصل جزيرة كمران على البحر الأحمر بمدينة الحديدة، بالإضافة إلى مدّ تلغراف آخر إلى منطقة حجور.
أما من الناحية الثقافية فترك العثمانيون إرثاً كبيراً بكل نواحي الحياة في اليمن، فحتى اليوم ما زال اليمنيون يستخدمون عديداً من الكلمات التركية في لهجتهم المحلية. من أشهرها مثلاً كلمة "بَردة" وتعني "الستارة"، وكلمة "بَز" وتعني "قماش"، أو "خِرقة" وتعني "قماش" أيضاً، و"جزوة" وتعني "إبريق الشاي الصغير"، و"زقاق" وتعني "شارع صغير"، و"شرشف" وتعني "عباءة النساء"، و"قوزي" وتعني "الخروف الصغير"، و"كيرى" وتعني "إجار"، وكلمات عديدة أخرى مثل "شنطة، طاولة، أفندم، كوبري، أسطى، بقلاوة، كمر، ماسة، طُرشي... و"حولي" وتعني "منشفة"، و"أيوت" وتعني "نعم"، وكثير من الكلمات الأخرى المستخدمة في اليمن عموماً وفي مناطق دون أخرى.
ليس هذا فحسب، بل تأثرت لهجات بعض المناطق اليمنية بقوالب الضمائر في اللغة التركية، فمثلاً في اللغة العربية لا يُنادى الشخص الفرد بصيغة الجمع، بعكس اللغة التركية، وهذا ما تجده دارجاً في لهجات بعض الأسر اليمنية التي ما زالت ألسنتهم متأثرة باللغة العثمانية، تحديداً منطقة صنعاء القديمة، فبعضهم عندما ينادي مَن هو أكبر منه سنّاً أو مقاماً وإن كان ذلك الشخص فرداً، فإنه يناديه بصيغة الجمع لا المفرد، كأن يقول "كيف أنتو؟" أو "إيش بتفعلوا؟" وهكذا.
أما المطبخ اليمني فهو الآخر لم تخلُ موائده من الأكلات المأخوذة من المطبخ التركي، فما زال عديد من الأكلات الشعبية يُقدَّم حتى اليوم، بل ويتصدر قائمة الأكلات اليمنية الشعبية الأكثر شهرة داخل اليمن وخارجه، كوجبة السلتة، وهي وجبة من عدة مكوّنات كالمرق والحلبة والطماطم المفرومة وقطع صغيرة من اللحم المفروم، وإضافات أخرى إلى هذه الوجبة حسب ثقافة المنطقة، كالبطاطس والأرز والفلفل وغيرها. ويرجح أن هذه الوجبة مشتقة من الأكلة التركية "كيراميته"، التي تُقدَّم في المطاعم الشعبية التركية.
بالإضافة إلى وجبات وأكلات وحلويات أخرى مأخوذة من المطبخ التركي العثماني تزخر بها السفرة اليمنية، كالضولمة أو المحشي، وبنت الصحن وهي وجبة من القمح والبيض والحليب، تُدهَن عند تقديمها بالعسل والسمن البلدي وتُرصَّع بالحبة السوداء، وهي أقرب ما تكون إلى وجبة البوريك التركية، مع اختلاف الأحجام. وبما أن حاميات الجند في اليمن في أثناء الوجود العثماني كانت من أهمّ القطاعات التي نشط فيها الأتراك، فإن كل هذه الوجبات أو جلّها كانت تُقدَّم للجنود في المعسكرات، حيث بقي ما يُسمَّى "الكدمة"، وهي خبز على شكل كروي يُقدَّم حتى الآن في المعسكرات اليمنية. إلى جانب عديد من الحلويات التي تُقدَّم في مناسبات مختلفة، كالكنافة والبقلاوة والرواني والقطايف وغيرها.
ترك العثمانيون طوال بقائهم في اليمن الممتد إلى ما يقرب من 400 عام إرثاً حضاريّاً كبيراً، شمل تقريباً جميع نواحي الحياة في المجمع اليمني، فلا يكاد مجال ثقافي أو مادي في المجتمع اليمني لا تظهر من خلاله ملامح الإرث العثماني. فإلى جانب التأثير المادي والثقافي، بقيت روح العثمانيين تنبض في الأرض اليمنية حتى يومنا هذا، من خلال بقاء كثير من الأسر اليمنية الممتدة جذورها وأعراقها إلى العثمانيين، بخاصة من أبناء الجنود وموظفي الدولة العثمانية الأتراك الذين قرّروا البقاء في اليمن، والذين يُقدَّر عددهم بما يقرب من 30 ألف أسرة، من أبرزها أسرة التركي، والآغا، والأفندي، وسلمان، والمضرحي، وساري، وجعوال، وطيرة، والعثماني، وبابكر، والساروي، والمضرحي.
تَحدَّث عديد من الدراسات عن جوانب متعددة ومختلفة حول الشواهد التاريخية العثمانية المتمثلة في التراث اليمني المادي والثقافي، والتي أثرت بدورها في تكوين جزء من ثقافة المجتمع اليمني. ولكن على الرغم من هذه كثرة الدراسات، فإنها تبقى محدودة مقارنةً بحجم الإرث الكبير الذي اشترك فيه اليمنيون مع الأتراك على مدار عقود من الزمن تحت دولة وراية واحدة، فما زالت جوانب ومواضيع لم يَتطرَّق إليها الباحثون والمؤرخون سواء اليمنيون والأتراك، مما جعل هذا التراث عرضة للانقراض والنسيان مع مرور الزمن، في حين أن الحفاظ على هذا التراث من خلال الاهتمام بالآثار المتبقية التي أوشكت على الاندثار، بخاصة المادية منها، سيضيف إلى الأرشيف اليمني كثيراً من الحقائق التاريخية التي تبلورت على مدى أربعمئة عام تقريباً عاشها الشعبان معاً وشهدا من خلالها كثيراً من الأحداث التي شكلت بدورها شكل الدولة والمجتمع اليمنيَّين.