غالباً ما تهمش الأم تأثير سلوكياتها على بناء الطفلِ النفسي، فينشأ متضعضعاً غير واثق في نفسه، أو ناقماً في وقتٍ ما من عمره على ما تلقاه من سلوكيات تربوية تركت أثرها النفسي مدفوناً في أعماقه!
فكيف تفككُ الأم السامة البناءَ النفسي لأطفالها؟ ما أبرز سلوكياتها السامة؟ وهل مطلوب من الأمهات الوعي الدائم بشأن السلوكِ أو ردودِ الفعل أو الأقوال التي يقدمنها لأطفالهن؟ هل الإجهاد أو الضغط النفسي أو الظروف التي تتعرض لها الأم في حياتِها داخل الأسرة وخارجها مبررٌ لمعاملة الطفل بما يضره آنياً أو مستقبلاً؟ ما مصير هذا الطفل الذي نشأ على يد أم سامة؟ وكيف له أن يتعامل معها مستقبلاً؟
كل هذه الأسئلة وغيرها طرحتها TRT عربي على متخصصين في علم النفس للوقوف وراء كواليس وتابوهات الأم السامة التي تدفعها لتكون أنموذجاً شاذاً عن طبيعة الأم، وما تطلبه الأمومة.
لا تقبل ولا ترضى
يقول أ. أحمد فرينة -باحثٌ في علم التربيةِ والنفس- فلسطين لـ TRT عربِي عما يبين أنّ هذه الأمَ من النوع السام:" تبدأُ سلوكياتُ الأمِ السّامة عند عدم قبولها الدائم لما يقدمه الأبناءُ من مجهوداتٍ وطاقات لقاء رضاها، ثم تتطور الأمور بشعور أبنائها بعقدة الذنب لعدم قدرتِهم على استجلابِ رضاها".
يتابع: "هذا التصرف يجعلُ من الابنِ أسيراً لمعايير مثالية لا يمكن تحصيلها، طبعاً هذا فضلاً عن ممارستها أسلوب السيطرة بالاعتداء على حريتهم في اتخاذ القرارِ الملائم".
يضيفُ: "يجدُ الابن نفسَه واقعاً في ظرف مراجعتها خشية الصدام وتعرضه للعقابِ حال تحرره عن سلطتها وديكتاتوريتها، خصوصاً عندما تشعرُ بأنها في موقع المنافس فتظهر عليها علامات الغيرةِ وتضع نفسها في موقع الخصم".
ويؤكد أ. فرينة لـ TRT عربي: "الأم السامة لا يوجد لديها وعي كأم يفترض بها أن تبني مفاهيمَ إيجابية تسعى من خلالها لبناء أصولِ الثقة والمحبة والتسامح فتستبدلها بإشعارهم بالعجز وضرورة الخنوعِ لأخذ أقل حقوقهم".
تلاعب عاطفي وشعور بالذنب
من ناحية أخرى توضح د. نجوى أبو عيد –اختصاصية نفسية– من لبنان، تأثيرَ سلوكياتِ الأم السامة على أطفالها فتقول لــTRT عربي: "إنَّ تأثيرَ نرجسيةِ الأم السامة كبير جداً على أبنائها فمن خلال إهمالها لهم من ناحية وتسلطها الكبير والعنيف عليهم من ناحيةٍ أخرى يجعلهم أداة تتلاعبُ بهم عاطفياً، غير قادرين على الانفصال عنها وتكوين شخصيةٍ مستقلة، لأنهم امتداد لها، ومرتبطون بها من خلال الشعور بالذنب الشديد".
وينعكسُ تأثير الأم السامة على أطفالها نفسياً من خلال سماتهم الشخصية فتؤكد د. أبو عيد: "أبرز سمات شخصية الأبناء تكون الاحترافية بالشعور بالذنب فكل عمل يقوم به الابن أو ينوي القيامِ به يكون مغموراً بالشعور بالذنب".
تضيف: "اتخاذ القرارات يترافق بالندمِ ومعاقبة الذات إذا كانت هذه القرارات نابعةً عن قناعاته الشخصية، لأنه ينمو وهو يعتقد دائماً أن كل ما قد يقوم به قد يُسبب الأذى لأمِه وكل ما يحصل لها وله من سوء وجراح فذلك بسببه هو وبسبب أخطائه، لأنه لا يجرؤ أن يعتقد أن أمه قد تكون هي من تَسببَ بذلك".
وتتابع: "يتميز أبناءُ الأم السامة بعدم الثقة بالذاتِ مع عدم القدرة على تأكيد الذاتِ وهذا مقرون بالشعورِ الدائم بالعجزِ والفشل، عدمِ الاستقلالية، وعدمِ القدرة على التفرد".
توضح: "الولدُ أو الابنُ الراشدُ للأم السامة لا يستطيع تكوينَ شخصية مستقلة، كما أنه مرتبط بشكل وثيق برعايةِ أمه فهو المسؤول المباشر عنها، مما يمنعه أن ينمو كطفل بل يكون هو الأهل لأمه".
الضغوطُ لا تبررُ تنحي الأم عن دورِها
وعما إذا كان مطلوباً من الأم الوعي والإدراك الدائمان تجاه سلوكياتها، وما إذا كانت الضغوط والإجهاد النفسي أو الظروف يغفران لها نزعاتها أو سلوكياتها يؤكد أ. فرينة لـ TRT عربي: "يجب على الأم أن تكون واعيةً بخصائص نمو طفلها في مختلف مراحل عمره، وعي يضعها في موقع المسؤولية والخدمة ومعرفة أسلوب وطرق التعامل مع كل موقف وفعل، وتأتي حاجتنا لوعيها من حاجتنا لبناء شخصية طفلها وبالتالي بناء مجتمع حرٍ مسالمٍ معافى".
يتابع: "الاجهادُ والضغطُ اليومي الذي تتعرض له الأمُ لا يبرر إطلاقاً تنحيها عن دورها ووظيفتها كأم مسؤولة عن صحةِ أبنائها النفسية والجسمانية، وعليه فإن وعيها بدورها الحقيقي مطلوب لحماية حقوق أبنائها بحياة آمنة خالية من الأذى والشعور بالذنب".
وعن مصير علاقة الطفل –عندما ينضجُ ويكبر- بأمّه السامة يؤكد أ. فرينة: "يجب على الابن تحييد المشاعر عند التواصل مع أمه، أو فيما يعرف بالانفصالِ العاطفي وتجنب التأثرِ بتصرفاتها المزعجةِ ومعاملتها بشكل عادي دون جدية وانتباه، وأيضاً توظيف جهده في بناءِ مستقبله وتجنب تضييع وقته في تغييرها وتغيير نمط وأسلوب تفكيرها حيالَه".
المسامحة والغفران لبناء نفسي سليم
كل هذا يجعلُ من طفل الأم السّامة عندما ينضج قنبلة موقوتة تتراكم بها الجروحات والضغائن، تضع د. نجوى أبو عيد طرقاً وحلولاً لكيفيةِ تجاوز هذه الجروحات كأبناء ناضجين فتقول لــTRT عربي:"يبدأُ طريق الشفاء من القدرةِ على مسامحة الأم وعدم الحكم عليها وذلك من خلال تفهمِ ما عانته هي نفسها في طفولتِها".
وتبيّن: "لأن ما تفعله الأم السامة مع أولادها ليس إلا تكراراً لما عانتهُ في طفولتها، فهي إنسان له أخطاؤه وزلّاته قد عاش صعوبات كثيرة وحاول دون معرفة منه أن يرميها على أطفاله".
وتتابع: "إن وعي الضعف الإنساني لشخصيةِ الأم يعطي القدرة على حبها من خلال الرحمة لما عاشته، ولكن دون التعاطفِ معها ومع ما عاشته لأن التعاطفَ يحمل على الشعور بالذنب وإدانة الذات، فرحمةُ وحبُ الذات ضروريان ليستطيع الراشد أن ينمو بعيداً عن الشعورِ بالأسى والمرارة".
تضيف: "أحد الحلول أيضاً يكمن في القدرةِ على قبول فشل هذه العلاقة مع الأم من خلال إدراك الخلل والوعي لما تسببه هذه العلاقة من تدميرٍ في نفس الأبناء الناضجين. الإدراك هو المفتاح الأساس في طريق الانفصالِ وتكوين شخصيّة متفردة خالية من الغضب والضغينة. فمسامحة الأم وحبها يجب أن يكون مشروطاً بالوعي لعدم الوقوع في ثغرات هذه العلاقة".
وتنوه: "يجب التركيزُ على تكوين علاقات أخرى مختلفة وليس تكوين علاقات جديدة تكون تكراراً لهذه العلاقة الأولية مع الأم وولاء لها. مع القدرة على كسر هذا النمط من العلاقة مع الأبناء".
وتؤكد د. أبو عيد لـTRT عربي: "أن الأولاد الذين كبروا على هذا النمطِ من الشعور بالذنب ومعاقبة الذاتِ الذي يحمل على استمرار التعلق المعيق بالأم يصعب عليهم أن يدركوا هذه المعضلة لهذا هم بحاجة للمساعدة".
وفي الختام، تعتبر د. نجوى أبو عيد أن طلب المساعدة النفسية ضروري للأبناءِ، وواجب لتخطي هذه الجروحات النفسية وتخطي الشعورِ بالأسى والألم تجاه الذات والغضب والضغينة تجاه الأم ومن يمثلها. كي يصلوا إلى الإدراكِ والوعي المحرر الذي يمنع تكرار هذا النمط في العلاقاتِ مع الآخرين ومرة أخرى مع الأبناء كعامل إخلاص لما تربوا عليه.