"القدس تعادل نصف حج بالنسبة إلى الشعب التركي".. معادلة يوضحها المحلل السياسي التركي الدكتور برهان كور أوغلو تكشف الدوافع القوية وراء تشبث الأتراك بزيارة المدينة ومعالمها الدينية بشكل دوري.
"تقديس الحج" نسبة إلى زيارة مدينة القدس بعد فريضة الحج، عادة قديمة تعود إلى زمن الدولة العثمانية، عندما كانت زيارة المسجد الأقصى ركناً أساسياً اعتاد الحجاج على القيام به قبل الحج أو خلال رحلة العودة، يهدف إلى ربط المسجد الأقصى بشعائر ركن الإسلام الأعظم وهو الحج.
أعادت وزارة الشؤون الدينية في تركيا إحياء هذه العادة عام 2015، خلال قرار عممته على المواطنين العازمين على الحج، في ظروف حساسة يمر بها المسجد الأقصى جراء محاولات الاحتلال فرض سياسة التقسيم لتحقيق رواياته المزعومة.
ينطلق كور أوغلو في حديثه لـTRTعربي، من مكانة القدس الدينية بالنسبة إلى الأتراك، فوجوب زيارتها والدفاع عن مقدساتها نابع من أحاديث الرسول محمد -عليه الصلاة والسلام. فالمسجد الأقصى في الإسلام هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
أما القدس في السياسة التركية فباتت من أولى أولويات الحكومة التي تعمل بجهد دؤوب لدعم الشعب الفلسطيني صاحب أكبر القضايا وأقدسها بالنسبة إليها، وذلك بشتى السبل ومن مختلف المنابر الإسلامية والدولية لرفع لواء قضية فلسطين العادلة أمام كل المحافل العالمية.
دفاع تركي على المنابر الدولية
"كلما صعّدت تل أبيب من سياساتها ضد الشعب الفلسطيني، صعّدت أنقرة من مواقفها وقراراتها ورفعت مستوى الدعم السياسي والمادي والدبلوماسي لشعب فلسطين"، هي رؤية أستاذ القانون والعلاقات الدولية في إسطنبول الدكتور سمير صالحة حول استراتيجية تركيا في إبقاء الملف الفلسطيني ساخناً، على الرغم من المساعي الإسرائيلية لإغلاقه "بالتنسيق مع عواصم إقليمية"، على حد قوله.
جهد تركي دائم حيال الملف الفلسطيني يؤكده صالحة لـTRTعربي، قائم بين السلطة السياسية ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات الإغاثية، والاتحادات الناشطة في مجال حقوق الإنسان، "ما يعكس حجم الرغبة التركية في زيادة الدعم للشعب الفلسطيني والوقوف إلى جانبه في قضاياه المحقة".
وهذا ما ظهر جلياً في 13 ديسمبر/كانون الأول 2017، خلال انعقاد قمة لدول "منظمة التعاون الإسلامي" في إسطنبول، ضمت أكثر من 50 دولة مسلمة بدعوة من تركيا. جاءت "رداً على إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب القدس عاصمة مزعومة لإسرائيل في السادس من الشهر ذاته". دعا خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دول العالم للاعتراف بالقدس عاصمة لفلسطين، رافقتها نداءات بضرورة زيارة مدينة القدس والدفاع عنها.
حينها لاقت دعوات الرئيس أردوغان استجابة شعبية كبيرة تمثلت في زيادة حجم الزيارات إلى مدينة القدس، إذ يصل إليها سنوياً ما يقارب 50 ألف تركي، وهو ما قوبل إسرائيلياً بتشديد الإجراءات لعرقلة هذه الزيارات.
وحسب الدكتور كور أوغلو، "فإن الزيارات التركية تتكثف أيضاً بالتزامن مع تنفيذ إسرائيل اعتداءات على قطاع غزة أو القدس أو الضفة، فتتضاعف بالتزامن معها الدعوات لتشجيع زيارة الأتراك للقدس، كي يشعر الفلسطينيون أن شعوباً يدعمونهم معنوياً ومادياً".
ولعل ما يميز الرحلات التركية إلى القدس إدراج زيارة المسجد الأقصى ضمن برنامج الحجاج والمعتمرين الأتراك، قبل التوجه إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة، وتخفيض أسعار تذاكر السفر من قبل شركات الطيران والسياحة التركية القادمة إلى القدس، أي أن المواطن التركي يزور أهم ثلاثة مقدسات للمسلمين خلال رحلة واحدة.
ويرى كور أوغلو أن "القدس قضية كل الأمة، وإذ لم تجرِ زيارتها فلن يشعر الزائر بجمال المدينة، ولا بالظلم الذي تمارسه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني لا سيما المقدسيين خصوصاً. لذا فإن القدس كمكة المكرمة والمدينة المنورة هي أماكن تقع على عاتق كل مسلم أن يدافع عنها".
"فلسطين أم الدنيا للأتراك"
"يقولون مصر أم الدنيا.. بالنسبة إليَّ فلسطين هي أم الدنيا" بهذه الكلمات العابقة بشعور الحنين إلى زيارة القدس مجدداً تستذكر المواطنة التركية ملك أونال رحلتها إلى المدينة المقدسة مرتين متتاليتين في عامَي 2017 و2018.
تؤكد أونال مقولة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش أن"فلسطين أم البدايات وأم النهايات"، وتقول في حديثها لـTRTعربي بأنها "تشعر بانتماء كبير إلى بلاد الشام بعد مكوثها في سوريا نحو 10 سنوات، لكنها توّجت القدس على عرش أهم الأماكن المقدسة بالنسبة إليها بعد مكة المكرمة".
أونال كسائر الأتراك لم تنعم بحرية التجوال في أحياء المدينة على الرغم من شوقها إلى تأمل معالمها المقدسة، فالسلطات الإسرائيلية "تعكر صفو تلك اللحظات، وتراقب الزائرين أينما حلوا دونما توقف"، إلا أن القدس في نظرها "تستحق كل هذا العناء".
لطالما جال في خاطرها أن تزور مدينة نابلس وتتعرف على أصالتها عن قرب لكن الأمر لم يكن سهلاً، "نظراً إلى مشقة التنقل من مدينة إلى أخرى بفعل إجراءات الاحتلال المشددة". كل ذلك لم يمنعها من التفكير في زيارة القدس مجدداً، ومحاولة زيارة مدن فلسطينية أخرى.
صديقتها نصحتها بعدم زيارة القدس لكونها تصب في ناحية الاعتراف بإسرائيل من وجهة نظرها. لكن الرؤية تختلف لدى أونال، معتبرة أن "كل إنسان باختلاف ديانته يجب أن يزورالقدس كي نقول للعالم أن القدس لنا وحتماً ستعود. فالزيارة للقدس ذات طابع إنساني لا تطبيعي".
عرقلة إسرائيلية للزيارات التركية
الإصرار التركي على التوجه إلى مدينة القدس وزيارة أماكنها المقدسة لم يعرقله حتى تعقيدات السلطات الإسرائيلية والصعوبات التي تفرضها أمام الزوار الأتراك. إذ تعمد السلطات الإسرائيلية إلىتوقيف الزائرين واحتجازهم في المعابر الحدودية لساعات طويلة وتفتيش هواتفهم، كما تتعمد المماطلةفي منح تأشيرات الدخول للمرشدين السياحيين الذين يقودون الوفود إلى القدسأو رفض منحها، فضلاً عن فرض دفع مبلغ 50 شيكلاً (نحو 11 دولاراً) على كل شخص في الوفود بحجة التأمين.
ساعات التوتر والمشقة هذه يرويهاالدكتور كور أوغلو لـTRTعربي، فعند زيارته القدس عام 2008 مع عائلته وتحديداً على أحد أبواب المسجد الأقصى، طلب منه أحد جنود الاحتلال باستهزاء قراءة الفاتحة لكي يعلموا إن كانوا مسلمين ويضاعفوا التشديد عليهم.
سلطات الاحتلال أجبرت كور أوغلو وعائلته على الانتظار نحو 5 ساعات تحت وطأة الشمس للعبور من فلسطين المحتلة إلى الأردن عبر "جسر الملك حسين" المعروف فلسطينياً بـ"جسر الكرامة"، بذريعة تعطُّل أجهزة الحاسوب الأردنية. وبعد وصولهم إلى الجانب الأردني بعد طول عناء اكتشفوا أن الأجهزة تعمل بشكل طبيعي، حينها تأكد كور أوغلو أن "لا حقوق لأي إنسان تطأ قدمه أرض فلسطين أكان فلسطينياً أم عربياً باستثناء حقوق الاحتلال".
قصة أخرى يرويها كور أوغلو حين وجد نفسه مضطراً إلى التدخل لحماية مقدسي كان يتعرض للضرب على يد مستوطن، ما لبث أن طالته بعض الكدمات من قبل الشرطة الإسرائيلية التي تدخلت لحماية المستوطن.
الزحف التركي نحو القدس يساهم بتفعيل الوجود الإسلامي في المسجد الأقصى والمدينة المقدسة، ويتعارض مع زيارات التطبيع مع كيان الاحتلال. فالجهود التركية على اختلاف أشكالها تسعى بالدرجة الأولى لدعم صمود الفلسطينيين وحماية مقدسات المسلمين في ظل الإجراءات الإسرائيلية المتلاحقة لتهويد المدينة.