في ظل تدهور العلاقات الجزائرية-الفرنسية وخلال المقابلة التلفزيونية التي أجراها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مساء الأحد 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021 مع وسائل إعلام محلية، تحدث تبون عن جرائم الاستعمار الفرنسي بحق الشعب الجزائري منذ احتلاله لبلاده بدءاً من عام 1830 حتى خروجه منها عام 1962.
وفي معرض حديثه عن هذه الجرائم قال تبون: "فرنسا استعمرتنا 132 سنة كانت فيها جرائم بشعة لا تُمحى بكلمة حلوة، توجد عائلات وعروش (قبائل) مُحيت نهائياً مثل الزعاطشة (جنوب شرق الجزائر) لم يبقَ منهم رضيع واحد". وأضاف: "اسألوا أهل الذكر والذاكرة ماذا فعلوا في (مسجد) كتشاوة.. لقد قتلوا فيه 4 آلاف مُصلٍ استشهدوا بعد أن جرت محاصرتهم بالمدافع وإبادتهم".
ومن خلال هذا التصريح يكون الرئيس الجزائري قدم رواية رسمية لإحدى أبشع المجازر التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية بحق قرابة 4 آلاف مُصلٍ اعتصموا داخل مسجد كتشاوة العثماني رفضاً لتحويله إلى كنيسة.
مسجد كتشاوة
بُني مسجد كتشاوة الذي يعد أحد أشهر المعالم الإسلامية في الجزائر لأول مرة عام 1520 في منطقة القصبة في قلب العاصمة الجزائرية بأمر من البحار العثماني الشهير خير الدين بربروس الذي كان والياً على الجزائر في بداية الحقبة العثمانية التي امتدت بين عامَي 1518 و1830.
إلا أنه وبسبب صغر حجمه دفع الباي حسن باشا، أحد الولاة العثمانيين الذين تعاقبوا على حكم الجزائر، إلى توسعة المسجد وإعادة زخرفته بالشكل الذي يليق بالإرث العثماني في الجزائر، وفي عام 1792 انتهت أعمال التوسعة الكبرى وأطلق عليه اسم مسجد كتشاوة.
وترجع تسمية المسجد إلى الكلمة التركية (keçi) التي تعني باللغة العربية "العنزة"، وذلك نسبة إلى سوق الماعز في الساحة المقابلة للمسجد التي تحول اسمها إلى ساحة الشهداء، بعد المجزرة التي ارتكبتها قوات الاستعمار الفرنسي بحق المدنيين الذين اعتصموا في المسجد رفضاً لتحويله إلى كنيسة.
المجزرة الفرنسية
في أعقاب الاحتلال الفرنسي للجزائر، أصدر القائد الأعلى للقوات الفرنسية الجنرال الدوق دو روفيغو الذي كان تحت إمرة قائد الحملة الفرنسية الاستعمارية "دوبونياك" في عام 1832 قراراً يقضي بتحويل مسجد كتشاوة العثماني إلى كاتدرائية، قام الجنود الفرنسيون على إثرة بإخراج آلاف المصاحف من المسجد إلى الساحة المجاورة وإحراقها على الملأ، بشكل مشابه لجريمة هولاكو الذي أحرق مكتبة بغداد بعد اجتياحها.
ورداً على هذه الأفعال العدوانية التي مست الحرمات الإسلامية ودفاعاً عن المسجد انتفض سكان العاصمة واعتصم أكثر من 4 آلاف جزائري داخل المسجد دفاعاً عنه رافضين تحويله إلى كنيسة. روفيغو وجنوده لم يتوانوا عن محاصرة المسجد ودكه بالمدافع فضلاً عن سحب المعتصمين عنوة إلى ساحة الشهداء وقتلهم جميعاً، مرتكباً بذلك إحدى أفظع المجازر الفرنسية بحق الجزائريين.
بعد المجزرة أمر روفيغو بهدم ما تبقى من المسجد من أجل بناء كنيسة مكانه، وقال جملته الشهيرة "يلزمني أجمل مسجد في المدينة لنجعل منه معبد إله المسيحيين".
من مسجد إلى كنيسة
في أعقاب المجزرة مباشرة وتحديداً في نوفمبر/تشرين الثاني 1832، حول ما تبقى من المسجد بعد إزالة المعالم الإسلامية وبناء أخرى مسيحية إلى كنيسة سُميت بكاتدرائية القديس "سانتا فيليب"، صلى فيها المستعمرون أولى صلواتهم ليلة عيد الميلاد 24 ديسمبر/كانون الأول 1832.
وأثناء رفع الصليب على بقايا المسجد، قال قائد الحملة الاستعمارية الفرنسية آنذاك:" الآن انتصر الصليب على الهلال؛ فلأول مرة يثبت الصليب في بلاد الأمازيغ".
واحتفالاً بتحويل مسجد كتشاوة العثمانية إلى كنيسة، أرسلت الملكة "إميلي زوجة لويس فيليب" هداياها الثمينة للكنيسة الجديدة، وأرسل الملك فيليب الستائر الفاخرة، كما وبعث البابا "غريغور السادس عشر" تماثيل للقديسين لتزين الكنيسة الجديدة.
إلى مسجد مجدداً
بعد نيل الجزائر استقلالها عن فرنسا عام 1968، أعيد تحول الكنيسة إلى مسجد مجدداً، وتحول مسجد كتشاوة العثماني إلى أحد رموز الاستقلال في البلاد، وأقيمت بين جدرانه أول صلاة جمعة يوم 5 يوليو/تموز 1962.
وبقي المسجد يستقبل المصلين حتى أغلق أبوابه في 2008، بعد أضرار لحقت به جراء زلزال عنيف ضرب العاصمة الجزائر في 2003.
وفي أبريل/نيسان 2018 أُعيد فتح مسجد كتشاوة بعد عملية ترميم نفذتها وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا" بفريق مختص وهيئة أكاديمية وحرفيين مهرة في فن التخطيط والنقش، بناءً على اتفاق بين حكومتَي الجزائر وتركيا.