من روسيا وإيران وتركيا وصولاً إلى أمريكا اللاتينية، تخوض الولايات المتحدة معاركها الاقتصادية على أكثر من جبهة، لكنّ الصين تبقى هدفاً أساسياً لها، في حرب متجددة باتت تحتل المرتبة الأولى في سياسات الرئيس دونالد ترمب، الآتي من عالم الأعمال لتعزيز نفوذ "إمبراطورية" تستشعر مخاطر التحولات في الاقتصاد العالمي.
حرب متجددة
لطالما نظرت الإدارات الأمريكية إلى الاقتصاد الصيني كخطر يهدد مصالحها، لكنّ أحداً لم يكن في وارد الدخول في حرب اقتصادية كتلك التي يخوضها ترمب حالياً، وذلك لاختلاف التوقعات بشأن التبعات الخطيرة لهذا الخيار.
ويبدو ترمب مصرّاً على الذهاب بعيداً في الحرب ضد الصين، مدفوعاً بقناعة راسخة، عبّر عنها بسيل من التصريحات، حتى قبل سنوات من دخوله البيت الأبيض. ويمكن رصد أوّلها في تغريدة تعود إلى 21 سبتمبر/أيلول العام 2011، رأى فيها أن "الصين ليست حليفاً أو صديقاً؛ إنهم يريدون ضربنا وامتلاك بلدنا".
الرئيس الأمريكي ترجم هذه المواقف بعد انتخابه بإجراءات عملية، فبعد أجواء تفاؤلية سادت العلاقات الأمريكية-الصينية في مطلع عهده، اتخذت إدارة ترمب أول الإجراءات التصعيدية ابتداءً من 7 فبراير/شباط عام 2018، بإقرار "رسوم الضمانات العالمية"، التي تبعتها سلسلة من القرارات واللوائح التنفيذية بفرض رسوم جمركية على آلاف السلع الصينية -لا سيما الحديد والألمنيوم- بنسب تتراوح بين 10% و25%، ودخلت حيز التنفيذ في النصف الثاني من العام الفائت، واستدعت حزمة من الردود الصينية المقابلة. هكذا دخلت القوتان الاقتصاديتان العالميتان في نزال، ثمة إجماع على تسميته بـ"الحرب التجارية"، باستثناء رجل واحد، هو ترمب نفسه، الذي كتب في إحدى تغريداته "نحن لسنا في حرب تجارية مع الصين. هذه الحرب خسرناها منذ سنوات على أيدي بعض الحمقى، أو الأشخاص غير الأكفاء، الذين مثلوا الولايات المتحدة".
لماذا الحرب؟
ويقول رئيس جمعية "طريق الحوار اللبناني الصيني" وارف قميحة لـTRT عربي إن "التصعيد هو مسار بدأ في مطلع عهد ترمب، وسببه المباشر تخلّي الرئيس الحالي عن نهج إدارة سلفه باراك أوباما القائم على التعددية التجارية وتحرير التجارة العالمية. أما السبب العميق فهو وجود تنافس كبير بين قوتين كبيرتين، تحوّل إلى صراع قطبين، حيث ترى الولايات المتحدة أن الصين تشكل خطراً يهدد اقتصادها في المديين المتوسط والبعيد".
بطبيعة الحال، ثمة من يجهد في صب الزيت على النار، فترمب محاطٌ اليوم بمجموعة من المستشارين ممن يدفعون في اتجاه المواجهة الكبرى، على غرار بيتر نافارو، صاحب كتاب "حروب الصين القادمة"، والذي يسير على خطى جورج فريدمان، صاحب نبوءة "الحرب القادمة مع اليابان" في نهاية الثمانينيات، والتي سرعان ما عاكستها المتغيرات الاقتصادية في شرق آسيا.
التصعيد هو مسار بدأ في مطلع عهد ترمب، وسببه المباشر تخلّي الرئيس الحالي عن نهج إدارة سلفه باراك أوباما القائم على التعددية التجارية وتحرير التجارة العالمية
هدنة هشة
في حالة عدم اليقين، المستندة إلى حقائق حالية وتجارب سابقة، يستخدم ترمب مهارته كرجل أعمال لتحقيق أي مكاسب ممكنة، دون المخاطرة حتماً بالذهاب إلى حرب لا تزال التوقعات بشأن نتائجها متباينة بين المحللين الاقتصاديين.
على هذا الأساس، وبعد أشهر من التصعيد، اختار الرئيس الأمريكي الذهاب إلى "هدنة"، بدأ سريانها في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حين اتفقت واشنطن وبكين على تعليق الرسوم المتبادلة والدخول في مفاوضات تستغرق ثلاثة أشهر، تنتهي في الثاني من مارس/آذار المقبل.
وفي ظل مؤشرات حذرة بشأن إمكانية التوصل إلى حلول، فإن التكهنات تسير في أكثر من اتجاه، وإن كان ثمة ما يجمع بينها، وهو أن الحرب التجارية بين العملاقين ستستعر عاجلاً أم آجلاً.
وفي هذا الإطار، يقول قميحة إنه "ليس واضحاً بعدُ ما ستؤول إليه المفاوضات"، ويرى أن "كل الاتجاهات غير قابلة للتكهن، خصوصاً أن عوامل عدم اليقين كبيرة، وبالتالي فإن التفاؤل الحذر يبقى أفضل المواقف"، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن "مجرد اتفاق الرئيسين على تعليق فرض الرسوم والسماح بإجراء جولة مفاوضات جديدة، يعني أن ثمة رغبة في الحوار، الذي يمثّل الطريق الوحيد لتسوية الخلافات".
يتفق الخبير في الشؤون الصينية، ورئيس تحرير موقع "الصين بعيون عربية" محمود ريا مع هذا الرأي، إذ يقول لـTRT عربي إنه "من غير الممكن التوصل إلى إجابات حاسمة حول كيفية تطوّر مسار الأمور، فالرئيس الأمريكي لا يترك أية فرصة لحكم المنطق، وهو يقوم بضربات عشوائية تؤدي إلى ضياع المحللين في توقعاتهم".
ويوضح ريّا أن "الصينيين يشيعيون أجواء إيجابية حول التوصل إلى تفاهمات مبدئية في المحادثات الجارية، ولكنهم لا يعرفون تماماً ما إذا كان ذلك سيشكل قاعدة للتوصل إلى اتفاقات شاملة تنقذ أكبر اقتصادين عالميين من مواجهة حتمية، أم أن ترمب سينقضّ على التفاهمات الأولية ويسير في اتجاه الحرب"، لافتاً إلى أن "كل شيء رهن لما يختزنه ترمب في رأسه، ولكن ما شاهدناه حتى الآن لا يطمئن، فالرئيس الأمريكي لا يلتزم بعقود واتفاقات، حتى إنه ينسحب من المعاهدات العالمية، ما يوحي بأنه لن يلتزم بالاتفاقات الأولية التي تم التوصل إليها مع الصين، وسيؤدي ذلك إلى رد فعل صيني قوي جداً، ما ينذر باندلاع حرب شعواء".
من غير الممكن التوصل إلى إجابات حاسمة حول كيفية تطوّر مسار الأمور، فالرئيس الأمريكي لا يترك أية فرصة لحكم المنطق، وهو يقوم بضربات عشوائية تؤدي إلى ضياع المحللين في توقعاتهم
خسائر متبادلة
ما يجعل التكهنات متفاوتة هو أن بعض الأمريكيين ينطلقون من فرضية أنهم يمتلكون الكثير من الأوراق التي تجعلهم متفوقين علي الصين، التي يعمل الوقت ضدها، وذلك ضمن تنظيرات يعبر عنها اقتصاديون أمثال جيف ياستين، كبير محللي الأسهم في بانيان هيل بابليشينغ، الذي نقلت نشرة "فوربس" الاقتصادية عنه القول بأن "اليد العليا هي للجانب الأمريكي" في المفاوضات الجارية حالياً، منطلقاً في ذلك من توقعات تفيد بأن الصين "لن تكون قادرة على تحقيق هدف الانتقال نحو اقتصاد قائم على الاستهلاك، مثلما هي الحال في الولايات المتحدة".
في المقابل، ثمة رأي آخر يرى أن الصين قادرة على التأقلم مع الظروف الطارئة بشكل أفضل، وهو ما عبّر عنه كالوم بوروز، في موقع "بيزنس إنسايدر"، حين أشار إلى أن الصين "وضعت كل خيارات التحفيز المتاحة في اقتصادها، وقد بدأت في اعتمادها للتو"، ما يجعل الولايات المتحدة تخاطر، على المدى الطويل، بـ"فقدان هيمنتها الاقتصادية العالمية"، لتصبح الصين بذلك "أكبر اقتصاد في العالم بحلول العام 2020".
هذه التوقعات تتفق مع المؤشرات الاقتصادية التي يستعرضها قميحة، في حديثه إلى TRT عربي، إذ يوضح أن تجارب السنوات الأربعين الماضية أظهرت قدرة الصين على المواجهة، لا سيما في ظل سياسة انفتاح أثمرت نمواً سريعاً في اقتصادها، الذي سجل 6.5% في العام 2018، وهو أعلى بكثير من معدل النمو الاقتصادي العالمي المحدد بـ3.7%.
ويشير قميحة إلى أن الصين ترسم سياستها الاقتصادية في اتجاه تعزيز الاستقرار الداخلي في مواجهة عدم اليقين الخارجي، وهو ما يتبدّى في العديد من المؤشرات، وأبرزها نمو جيل جديد من الشركات المبتكرة وارتفاع معدلات مبيعات التجزئة عبر الإنترنت، واستقرار التوظيف، وزيادة الدخل، بجانب جهود حثيثة لتنويع العلاقات التجارية، ما يعني أن ثمة "خطة ب" موضوعة بالفعل لمواجهة السيناريوهات الأكثر سوءاً.
قبل عامين، كتبت وينتر ناي، البروفيسور في المعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD) عن الحرب التجارية التي هدد بها ترمب الصين خلال حملته الانتخابية "لسوء حظ ترمب، فإن زمن الثمانينيات قد ولّى. قبل عشرين عاماً، ربما كان الوضع مختلفاً. كانت الصين متخلفة بشكل كبير، وكانت تريد الوصول إلى التكنولوجيا والتقنيات الغربية، لكنها تمتلك حالياً معظم ما تحتاج إليه، وما لا تملكه يمكنها الحصول عليه بسهولة من البائعين خارج الولايات المتحدة".
هذا الأمر يؤكده قميحة حين يشير إلى تنظيم الصين لمعرض الاستيراد في شانغهاي، الذي يفترض أن يعقد في نسخته الثانية خلال العام 2019، ويرى ذلك "رسالة واضحة بأن لدى الصين مصادر بديلة للحصول على احتياجاتها الصناعية والتكنولوجية وفتح أسواقها".
ولكن "الحرب التجارية، شأن باقي الحروب، لها آثار على الطرفين المتقاتلين"، وفق ما يقول ريّا، الذي يرى أن "لا منتصر حقيقياً يمكنه تحقيق كل الأهداف في حرب كهذه، فالخسائر ستحل بالطرفين، والرابح هو الذي سيصمد لفترة أطول".
ويوضح ريّا "شاهدنا خلال الفترة الماضية الكثير من التأثيرات السلبية للحرب التجارية على الاقتصاد الصيني، وقد أقر الصينيون بذلك، ولمسوه بشكل كبير، ولكن هذه الحرب تركت أيضاً آثاراً مماثلة على الاقتصاد الأمريكي، الذي تعرّض لضغوط كبيرة، خصوصاً بعدما نجح الصينيون في توجيه ضربات قوية طالت الولايات الأمريكية التي تؤيد ترمب، ومن شأنها أن تجعل خسارة الرئيس الأمريكي مزدوجة، واحدة على المستوى الاقتصادي العام، وأخرى على مستوى الجمهور الذي يعوّل عليه" في انتخابات الرئاسة عام 2020، ما يعني أن "ترمب يلعب بالنار في الاتجاهين".
وفي وقت يترقب العالم سيناريوهات ما بعد الثاني من مارس/آذار، تبدو الولايات المتحدة والصين مندفعتين نحو "حافة الهاوية" مع "الحرص في الوقت ذاته على عدم الوقوع فيها"، وفق ما يقول قميحة، ليبقى المستقبل رهناً للإجابة على سؤال يطرحه ريّا "هل تشن الولايات المتحدة هذه الحرب ضمن إطار مشروعها الكبير لمواجهة الصعود الصيني، أم أنها حرب تكتيكية يريد ترمب من خلالها أن يحقق بعض المكاسب الداخلية والانتخابية؟"، ليخلص إلى القول "إذا كانت الحرب خياراً إستراتيجياً أمريكياً، فعلينا انتظار خضة كبيرة في الاقتصاد العالمي".