بعد أحد عشر عاماً من الغياب عن كرسي الرئاسة، قضى القسم الكبير منها في السجن بـ "تهم ملفَّقة" حسبما يقول مناصروه، عاد لولا دا سيلفا ليرأس البرازيل. عبر فوزه بالانتخابات الرئاسية، التي أُجري دورها الثاني يوم الأحد، متغلباً على غريمه اليميني المتطرف جايير بولسونارو.
وبعد معركة انتخابية حامية، نجح لولا دا سيلفا في حصد نسبة 50.9% من الأصوات، أي ما يعادل 60.35 مليون صوت. متقدماً بفارق بسيط عن جايير بولسونارو، الذي ورغم سياساته، التي يقول مراقبون، إنها كانت مضرة بالطبقة الفقيرة البرازيلية وعلى رأسها السكان الأصليين، وفشله في إدارة الأزمة الوبائية والتسبب في وفاة مئات الآلاف جراء كورونا، حصل على أكثر من 58 مليون صوت.
ويمثل فوز لولا دا سيلفا بالرئاسة نفحة أمل للطبقات الفقيرة في البرازيل، بعد فترته الرئاسية الأولى التي كانت زاخرة بالبرامج الاجتماعية، التي كانت تستهدف محاربة الفقر وتمكين تلك الطبقات من الولوج إلى الصحة والتعليم. كما يعد الرئيس البرازيلي الجديد أحد أكبر الداعمين للقضية الفلسطينية، ما يرجح حدوث تغيرات كبيرة في الموقف البرازيلي إزاء القضية.
زعيم من رماد الفقر والحرمان
ولد لويز إيناسيو لولا دا سيلفا عام 1945، في مدينة غارانيونز في ولاية بيرنامبوكو، شمال شرق البرازيل، لأسرة فقيرة جداً. إذ كان والده عاملاً بسيطا في مرفأ سانتوس على ساحل المحيط الأطلسي، وهو المدخول الوحيد الذي كان يعتمد عليه لإعالة زوجته وأبنائه التسعة.
لم تكن للولا دا سيلفا طفولة مترفة، إذ لم تسنح له الفرصة لولوج التعليم إلا بعد أن بلغ سنة العاشرة. ليغادره بعدها، في مراهقته، إلى ميدان العمل من أجل أن يسهم في إعالة أسرته. إذ امتهن مهناً عديدة، قبل أن يستقر عاملاً في مصنع للحدادة.
كل هذه المسيرة المحفوفة بالآلام صاغت عند لولا الشاب وعياً نقابياً واسعاً، جعله يصطف إلى جانب الطبقة العاملة مدافعاً عن حقوقها. وفي سن الـ21، أصبح زعيماً لنقابة الحدادين في ساو باولو، والتي أخلص لها جل وقته، هرباً من الحزن الذي خّلفه له وفاة زوجته الأولى في أثناء وضع طفلهما الأول.
في ثمانينات القرن الماضي، تحول لولا دا سيلفا من العمل النقابي إلى السياسي، بعد أن أسس حزبه؛ "حزب العمال البرازيلي". وبذلك نقل دفاعه عن العمال إلى معناه الأوسع، أي الدفاع عن الطبقات الكادحة والمسحوقة في البرازيل. في أثناء تلك الفترة صعد نجم المناضل الاشتراكي ليصير الوجه الأبرز لنصرة تلك الطبقات، والذين اختاروه بدورهم لتمثيلهم في أكثر من منصب، وبعدها ليصبح القوة المعارضة الأقوى في البلاد.
وفي سنة 2003، أصبح لولا دا سيلفا أول رئيس يساري للبرازيل، ومثَّل ذلك لحظة حقيقة بعد سنوات قضاها في المعارضة. ولم يخلف وعوده، إذ في ولايته الأولى أطلق برنامج "المنح العائلية"، من أجل دعم الطبقات الفقيرة وتخفيف تكاليف الحاجات الأساسية عليهم، ونجح في رفع دخل تلك الطبقات بـ14%. وفي 2004 أطلق برنامج "الصيدلية الشعبية"، الذي مكن 43 مليون برازيلي من ذوي الدخل الضعيف والمحدود من الولوج إلى العلاج المجاني.
كما أطلق برنامج "صفر جوع"، الذي يسهل توفير المواد الغذائية الأساسية للفقراء. وأطلق مشروعاً بقيمة 2.6 مليار دولار لتحسين ظروف عيش تلك الطبقات، والتهيئة المجالية للأحياء الفقيرة وتزويدها بالكهرباء والماء الصالح للشرب وشبكات الصرف الصحي، وهو ما استفاد منه نحو 12 مليون برازيلي.
كل هذه المشاريع، وكثير غيرها، جعلت من لولا دا سيلفا ملاك الفقراء الرحيم، كما اكتسب شهرة عالمية إذ لقي إشادة واسعة من الصحافة العالمية. وفي 2010 منحته المنظمة العالمية للغذاء "فاو" لقب "بطل مكافحة الجوع"، نظير جهوده في إعانة ملايين الكادحين في بلاده. وعلى المستوى السياسي، مكنته هذه الإنجازات من أن يفوز بولاية رئاسية ثانية.
في سنة 2017، اعتُقل لولا دا سيلفا واتهم بالتورط في قضايا فساد مالي وغسيل أموال، والحكم عليه بالسجن 9 سنوات، وهو ما كشفت تحقيقات صحفية بعد ذلك بأنها مؤامرة لثنيه عن العودة إلى السياسة. وفي 2021، جرى إطلاق سراحه ليعلن عودته إلى السياسة، متهماً الذين اعتقلوه بأنهم "حاولوا أن يقتلوا فكرة، لكن الفكرة لا تموت".
نصير الفلسطينيين
يعد لولا دا سيلفا أحد أبرز الزعماء الداعمين للقضية الفلسطينية في أمريكا اللاتينية، وهو ما عبر عنه سابقاً في زيارة له للضفة الغربية، سنة 2010، حين صرَّح بأن حلمه "أن يرى فلسطين حرة مستقلة، وتحيا بسلام في الشرق الأوسط". وفي ذات السنة، اعترف باستقلال دولة فلسطين في حدود 1967.
ومثَّلت القضية الفلسطينية نقطة مهمة في برنامج لولا دا سيلفا الانتخابي، خلال حملته الأخيرة، إذ دعا إلى دعم حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، كما حث الأمم المتحدة على ضرورة إعادة هيكلتها بحيث يمكن إحراز تقدم فيما يتعلق بالقضايا الرئيسية مثل "إقامة دولة فلسطينية". وكرر تلك الدعوات أيضاً في لقاء له مع الجالية الفلسطينية، إذ قال: "الفلسطينيون يستحقون كامل اهتمامنا وتضامننا".
وبعد فوز لولا دا سيلفا خلال الانتخابات الجارية، يجمع مراقبون، بأن فلسطين ستكسب مرة أخرى صديقاً قوياً في أحد أكبر دول أمريكا اللاتينية وأكثرها تأثيراً، وأيضاً داخل المنظومة الدولية إذ يتعهد لولا دا سيلفا بأن يعمل لحلحلة الوضع الفلسطيني الراكد ومجابهة الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون.