علت الأصوات داخل الكونغرس الأمريكي مطالبة إدارة الرئيس بايدن بالتراجع عن قرار فرضها عقوبات على الهند إزاء شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية "S-400". هذا بعد تلويح الإدارة بإمكانية معاقبة حليفتها الآسيوية بحكم قانون "كاتسا" المنظّم لـ"مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات".
يأتي هذا في جوٍ يُخيّم عليه التنافس الجيو-استراتيجي العالمي بين الدول الكبرى الثلاث، الصين وروسيا والولايات المتحدة، إذ تقع الهند في قلبه بحكم موقعها الجغرافي والسياسي داخل المنظومة الدولية، إضافة إلى قدراتها الاقتصادية والبشرية. الأمر الذي يقرأ فيه مراقبون إمكانية فشل المقاربة العقابية الأمريكية، بل وتحقيقها نتائج عكسية بدفع البلد الآسيوي نحو القوّتين المنافستين.
كما تكشف الدعوات الأمريكية تخوّفات داخل "الكابيتول هيل" من تكرار السيناريو التركي، الذي مثَّل ناقوس خطر بالنسبة لاستمرار قانون "كاتسا" في تحقيق أهدافه في عالم تغيّرت موازين القوة داخله لصالح القوى الصاعدة وعلى رأسها تركيا.
دعوات للتراجع!
في رسالة وجّهاها إلى الرئيس جو بايدن، دعا السيناتوران الأمريكيان جون كورنين ومارك وورنر، الإدارة إلى عدم فرض عقوبات على الهند بسبب شرائها الأسلحة الروسية وفق قانون "CAATSA". وأوصى السيناتوران، في معرض رسالتهما، "بإلحاح بعدم استخدام قانون CAATSA (حول مواجهة خصوم أمريكا عن طريق العقوبات) تجاه الهند بسبب خططها لشراء أنظمة S-400 الصاروخية الروسية بقيمة أكثر من 5 مليارات دولار".
ويرى كلٌّ من وورنر وكورنين أنّ العقوبات المحتمَلة قد تؤثّر سلباً على الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند، مقدّمان خفض الهند في السنوات الأخيرة حجم وارداتها من المعدات العسكرية الروسية كمبرر مهم للتراجع الأمريكي المنشود عن العقوبات. كما أبديا تخوّفهما من أن تعزّز تلك العقوبات مواقع القوى السياسية الهندية التي لا تعتبر الولايات المتحدة شريكاً وثيقاً، وأن تقوّض بذات الكيف محاولات الحكومة الهندية "لتخفيض الاعتماد على المعدات الدفاعية الروسية".
في المقابل، اقترح السيناتوران في رسالتهما على الإدارة تشكيل مجموعة عمل ثنائية من أجل "تحديد الخطوات المستقبلية لوضع استراتيجية لتعزيز التعاون العسكري بين الهند والولايات المتحدة". مؤكدان أهمية هذا الإجراء في مساعدة واشنطن هي الأخرى على مواجهة النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
تخوّفات مبررة
وتخطط الهند منذ أكتوبر/تشرين الأول 2018 إلى شراء منظومة الدفاع الجويّ الروسية "S-400"، في صفقة فاقت قيمتها 5 مليارات دولار وُصفت بأنها الكبرى في تاريخ مُصنِّع السلاح الروسي "روس أوبورون إكسبورت". هذا ودفعت الهند في نهاية 2019 مقدماً قيمته 850 مليون دولار لتسريع نشر الفوج الأول من بطاريات المنظومة بحلول سبتمبر/أيلول 2021.
صفقة تنظر إليها واشنطن بعين العداء، مع ما يربطها مع الهند من مصالح استراتيجية، لم تثنها عن التلويح بفرض عقوبات على حليفها الآسيوي. وصرّح وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، خلال زيارته لنيودلهي في مارس/آذار الماضي: "بالتأكيد نحثّ جميع حلفائنا وشركائنا على الابتعاد عن العتاد الروسي، وتجنّب اقتنائها بأيّ شكل مما يتسبب في فرض عقوبات من جانبنا".
من جانب آخر تُعدّ الهند لاعباً أساسياً في قلب المنطقة الآسيوية، ما يضعها محطّ رهانات القوى المتنافسة هناك، على رأسها روسيا التي تربطها بالبلاد علاقات قوية تعود إلى الحقبة السوفياتية. حيث يتفق الجانبان حول ما تمثّله الصين من تهديد مشترك على خلفية تنامي نفوذها في المحيط الهندي ووسط آسيا وشرقها. غير أنه يأتي في مرتبة ثانية أمام التهديد الأمريكي ووجود "الناتو" على الحدود الغربية بالنسبة لروسيا، أو التهديد الباكستاني بالنسبة للهند. الأمر الذي، وحسب محللين، دفع الدول الثلاث (الهند، الصين وروسيا) إلى التقارب فيما بينها.
في نفس السياق، دفعت التوجهات اليمينية المتطرفة لحكومة مودي بالهند، ونهجها الاقتصادي النيولبيرالي، إلى توطيد علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً خلال فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب. تُضاف إلى ذلك النزاعات الحدودية بين نيودلهي وبكين، ما جعل الأولى تقع في عمق السعي الأمريكي لكبح منافسة النفوذ الصيني في القرة الأسيوية والمحيطين الهادئ والهندي.
وبالتالي، يجد تخوّف السيناتورين الأمريكيين مبرراً له في ما يمكن لأيّ عقوبات أمريكية على الهند أن تثيره من تنامي الشعور المعادي لأمريكا داخل الساحة السياسية الهندية، ودفعه إلى تقارب جديد بين البلاد وجارتها الشمالية (الصين).
عالم جديد
على مستوى آخر، يُجمِع المحللون كذلك على أنّ موازين العالم اليوم قد تغيّرت بشكل يصبّ في مصلحة القوى الصاعدة، ما يفرض على الأقطاب التقليدية إعادة النظر في سياسات "القبضة الحديدة" في إدارة علاقاتها الدولية مع القوى الجديدة. فيما على رأس تلك السياسات قانون "مواجهة خصوم أمريكا عن طريق العقوبات CAATSA" الذي أبرز فشله في عرقلة سعي تركيا بممارسة حقها في التسلّح بالمنظومة الروسية "S-400".
حيث جدد الرئيس التركي سابقاً، في سبتمبر/أيلول الماضي، التأكيد أن بلاده لا تزال تنوي شراء دفعة ثانية جديدة من أنظمة الدفاع الجوي الروسية "S-400"، مشدداً على أنّه "لن يكون بوسع أحد التدخّل في ما يتعلق بنوع الأنظمة الدفاعية التي نحصل عليها، ومن أي دولة نحصل عليها، وعلى أي مستوى، نحن وحدنا نتّخذ مثل هذه القرارات". في حديث قرأ فيه مراقبون درساً قاسياً لمنطق الضغط الأمريكي على الدول الحليفة.
في المقابل، ما فتئ الرئيس التركي ينادي بأن "العالم أكبر من خمس دول" تمتلك حق الفيتو داخل مجلس الأمن الدولي. ودأبت تركيا منذ سنوات على تسويق مقترحها بتبني منظور جديد يرتكز على تغيير هيكلية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. إذ ترى أنّ إعادة هيكلة المجلس بطريقة أكثر أنصافاً تُمثّل من خلالها الدول والقارات والمعتقدات والأصول والثقافات، ستكون خطوة ثورية نحو العدل والسلام العالمي.