استيقظت فرنسا الثلاثاء على وقع حادثة صادمة، إذ لقيت إحدى المزارعات المحتجّات مصرعها إثر حادث سير مميت عندما كانت هي وعدد من المزارعين الآخرين يعتصمون لإغلاق طريق في مقاطعة أرييج، وهو ما صب مزيداً من الزيت على نار الغضب الذي يجتاح مزارعي البلاد، الذين يقودون منذ نحو أسبوع احتجاجات ضد الحكومة.
ولا تقتصر هذه الاحتجاجات على فرنسا وحدها، بل يجتاح الغضب مزارعي أوروبا في ألمانيا وهولندا وبريطانيا وبولندا، ويدفهم إلى الخروج إلى الشوارع محتجين عما يعتبرونه قرارات الحكومات التي صادرت عدداً من مكتسباتهم تحت بند السياسات البيئية والضريبية الجديدة.
بالمقابل ترى أحزاب اليمين المتطرف في هذه الاحتجاجات فرصة ذهبية من أجل توسيع قاعدتها الشعبية وربح نقاط على حساب الغضب الحاصل من الأحزاب الحاكمة.
ماكرون خائف من "سترات صفراء" أخرى
انطلقت احتجاجات المزارعين في فرنسا يوم الخميس 18 يناير/كانون الثاني، إذ بدأ المئات منهم بإغلاق الطرق السريعة في جنوب غربي البلاد احتجاجاً على قضايا مثل تخزين المياه والضريبة على وقود الجرارات والتأخير في دفع الإعانات الزراعية ومعايير البيئة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي.
وتطورت هذه الاحتجاجات ليلة الخميس إلى هجمات على مبانٍ حكومية، وحدث انفجار في مبنى خالٍ تابع لمديرية البيئة في مقاطعة أود (جنوب غرب)، وعُثر على كتابات جدارية تشير إلى جماعة تطلق على نفسها اسم "لجنة العمل الزراعي"، حسب ما ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية.
وتقلق هذه التحركات الحكومة الفرنسية المعينة مؤخراً لأنها تُعيد إلى الأذهان حركة السترات الصفراء، إذ أفادت بوليتيكو نقلاً عن أحد الوزراء الفرنسيين أن الرئيس ماكرون أعطى تعليماته بإيلاء اهتمام خاص لتحركات المزارعين "خوفاً من تكرار سيناريو السترات الصفراء".
والتقى رئيس الوزراء الفرنسي غابرييل أتال يوم الاثنين مع زعيم أكبر اتحاد زراعي لتدارس مطالب المزارعين المحتجين. وعقب هذا الاجتماع صرّح أرنو روسو زعيم فيدرالية نقابات المزارعين بأنه "ما دامت لم تكن لدينا قرارات ملموسة فلن يكون هناك رفع للإجراءات المتخذة على الأرض"، وحذّر من أن المزارعين الفرنسيين سيحتجّون "ما دام ذلك ضرورياً".
وتتصاعد مشاعر الغضب في أوساط المحتجين عقب الحدث الذي أودى بحياة زميلتهم في مدينة أرييج صباح الثلاثاء. وتعهّد زعيم فيدرالية نقابات المزارعين، في تصريحات صحفية، باستمرار الاحتجاج وإغلاق الطرق، مشيراً إلى أنها ستشمل كل التراب الفرنسي بحلول نهاية الأسبوع الجاري.
وفي نهاية الأسبوع الماضي ركب زعيم اليمين المتطرف الفرنسي جوردان بارديلا موجة احتجاجات المزارعين، واتهم بارديلا، خلال زيارة لمزرعة في جنوب غربي البلاد يوم السبت، الحكومة و حملة "أوروبا ماكرون" للانتخابات الأوروبية بالرغبة في "موت الزراعة الفرنسية".
وحسب بوليتيكو، يضغط اليمين المتطرف، الذي يتقدم بعشر نقاط مئوية في آخر استطلاعات الرأي لانتخابات الاتحاد الأوروبي، من أجل فرض "حالة طوارئ" زراعية وسياسة زراعية حمائية، ومن أجل خروج فرنسا من اتفاقيات التجارة الحرة, وهي القرارات التي تلقى ترحيباً لدى المزارعين الغاضبين.
مزارعو ألمانيا يعمقون أزمة شولتز
وفي ألمانيا دخلت الاحتجاجات يومها الخامس عشر منذ اندلاعها في 8 يناير/كانون الثاني الجاري. وذكرت الشرطة الألمانية أن نحو 5 آلاف جرار زراعي و30 ألف مزارع أغلقوا يوم الاثنين قلب العاصمة برلين، مطلقين أبواق آلياتهم احتجاجاً على قرار الحكومة بإلغاء الامتيازات الضريبية التي كانوا يستفيدون منها، وأبرزها الدعم على إمدادات الديزل للآليات الزراعية والخصم على ضريبة تلك الآليات.
ونجحت المظاهرات في الضغط على الحكومة ودفعها إلى التراجع جزئياً عن التخفيضات، ووعدت بإعادة الخصم على ضريبة المركبات والإلغاء التدريجي لدعم الديزل على مدى عدة سنوات بدلًا من الإلغاء الفوري، ومع ذلك لم يقبل المحتجون هذه التراجعات، وطالبوا بإسقاط حكومة شولتز.
ولسدّ الفجوة قال زعماء التحالف إن الحكومة ستلغي الإعفاء الضريبي على السيارات للمركبات الزراعية والإعفاءات الضريبية على الديزل المستخدم في الزراعة، وهو ما أثار السخط العارم في أوساط المزارعين.
وفي ظل هذه الأوضاع المحتقنة يعيش المستشار الألماني أولاف شولتز أزمة عميقة، لكونها ليست الاحتجاجات العمالية الوحيدة التي شهدتها البلاد خلال الشهرين الأخيرين. وفي مطلع يناير/كانون الثاني الجاري تسببت إضرابات موظفي السكك الحديدية في شلل حركة النقل في ألمانيا، وذلك بعدما نظم عمال المعادن وموظفو القطاع العام إضرابات في ديسمبر/كانون الأول.
علاوة على هذا أثارت الاحتجاجات خلافات حادة بين أعضاء الحكومة الألمانية، ففي الوقت الذي دافع فيه وزير المالية الليبرالي عن إجراءات التقشف التي فرضتها الحكومة على القطاع، انتقد وزير الزراعة جيم أوزدمير، من حزب الخضر، تصريحات زميله في الحكومة، ملقياً باللوم عليه في تأجيج غضب المزارعين.
وعلى غرار فرنسا كتبت صحيفة الغارديان أن السياسيين في ألمانيا يخشون استفادة اليمين المتطرف من غضب المزارعين وتحويل ذلك الغضب إلى مكاسب انتخابية.
واجتذبت مسيرات المزارعين أيضاً متظاهرين من اليمين المتطرف، إذ قاموا بأعمال مثيرة للجدل مثل نصب مشانق على جوانب طرق سريعة، ومنع وزير الاقتصاد روبرت هابيك من النزول من عبّارة، وفق ما أفادت به تقارير إعلامية.
غضب فلاحي أوروبا!
وفي صباح الاثنين نظّم مزارعو الفاكهة والخضار في بريطانيا مظاهرة "فزّاعات" احتجاجاً على المعاملة "غير المنصفة" من قِبل المتاجر الكبرى في البلاد، التي وصفوها بـ"المهددة" لقطاعهم. وقال غاي سينغ-واتسون أحد منظمي المظاهرة إنّ المشاركين سيضعون 49 فزّاعة أمام مقر البرلمان البريطاني، في إشارة إلى أن 49% من المزارعين على وشك التخلي عن مهنتهم.
ويطالب المزارعون البريطانيون بأن تلتزم المتاجر الستة الكبرى في البلاد، تيسكو وسسينزبوري وأسدا وموريسونز وألدي وليدل، اتفاقيات الشراء "المنصفة"، بما في ذلك شراء الكميات المتفق عليها ودفع المبالغ المستحقة في الوقت المحدد، وهم يحذرون بأن طريقة التعامل الحالية ستتسبب بوقفهم عن العمل في الأشهر الـ12 المقبلة.
من جهته أكد متحدث باسم وزارة البيئة والغذاء والشؤون الريفية أنه "من الصواب أن يحصل المزارعون البريطانيون على أسعار عادلة، ومراجعتنا لعدالة سلسلة التوريد ستساعد في معالجة هذه المخاوف".
وفي هولندا ظهر التذمر في قطاع الزراعة إلى السطح في يونيو/حزيران 2022، عندما كشفت الحكومة عن خطط لخفض انبعاثات النيتروجين عن طريق خفض قطيع البلاد المكون من نحو 4 ملايين بقرة بنحو الثلث، وإغلاق بعض المزارع.
ونظّم المزارعون الهولنديون أشكالاً احتجاجية، اقتلعوا من خلالها لافتات أسماء عدد من المدن وقلبوها رأساً على عقب، في تعبير منهم عن الغضب الكبير من خطط الحكومة البيئية.
بالمقابل تستمر ضغوط الفلاحين في بولندا ورومانيا وسلوفاكيا والمجر وبلغاريا بشأن تأثير الحبوب الأوكرانية على تنافسية محاصيلهم. وقاد الفلاحون البولنديون، منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، اعتصاماًً على الحدود الأوكرانية من أجل الضغط لحل مشكلاتهم.