لم يكن عمر إيلين كامينغ يتعدى وقتها الرابعة والنصف، حين توقفت قربها شاحنة يسوقها كهل أبيض، خرج وألقى بها في خلفية الشاخنة وانطلق نحو المجهول. لم ترَ بعدها إيلين أمها لأزيد من 15 سنة، الأم التي فقدت نصف قلبها مع غياب ابنتها، دون أن تعلم إذا كانت على قيد الحياة أم لا... هو حادث كان معتاداً في أستراليا بداية القرن العشرين، منذراً بقمة العنصرية والاضطهاد الذي كان يعانيه أمثال إيلين من السكان الأصليين للبلاد على يد المستوطنين البيض.
يدعى أولئك الأطفال محلياً بـ"الأجيال المسروقة"، كانوا يختطفون ويحتجزون دون علم آبائهم في مدرسة "لإعادة التأهيل الحضاري" وفقاً للمنطق العنصري السائد وقتها، حيث يتلقون أبشع معاملة واضطهاد لمحو هويتهم الأصلية، وأغلبهم كانوا لا يخرجون من هناك أحياء. فيما تلك الممارسة لم تكن حكراً على الأستراليين، فقبل أسابيع معدودة أعاد اكتشاف مقبرة جماعية تحت مدرسة ثانوية بكندا نفس الواقع إلى البروز مجدداً، مثيراً سخطاً عالمياً واسعاً، ما يدفع الآن الحكومة الأسترالية إلى التحرك لجبر ضرر ضحاياها من السكان الأصليين.
الأجيال المسروقة!
"لم يخبروا أمي بأي شيء، فقط أتوا وأخذوني" تقول إيلين كامينغ في حديثها لمؤسسة "هيلينغ" غير الحكومية. كامينغ التي بلغ اليوم عمرها 78 سنة، هي واحدة من آلاف الناجين من مراكز الاحتجاز العنصرية التي كان يديرها البيض من أجل "إعادة التأهيل الحضاري للسكان الأصليين المتوحشين"، حسب ما يمليه منطقهم العنصري.
في ما بين 1910 و1970، عملت الحكومة الأسترالية على تجميع أطفال السكان الأصليين، كما أولئك المولودين من زيجات مختلطة بينهم وبين البيض عنوة، ثم إرسالهم إلى مدارس داخلية تدار غالباً من قبل بعثات كنسية. تحكي إيلين قائلة: "لقد أخذونا إلى مدينة داروين وألقوا بنا في مكان كأطفال متخلى عنهم، كنت أبكي كثيراً وقتها، ثم أتى قارب ليقلنا إلى جزيرة كروكر حين أدخلنا المدرسة".
فيما تعتبر إيلين نفسها محظوظة أنها لم تخض التجربة وحيدة، بل صحبها في ذلك قريبتاها، إحداهما لورين التي كانت تكبرها بأربع سنوات. لورين التي لم يتعدَ عمرها الثماني لعبت دور الأم التي افتقدتها إيلين، وكان لها الفضل في حفاظها على لسانها الأم واسمها الأصلي، فيما دأب العاملون بذلك المركز على محو كل ذلك من ذاكرتهم وغسل أدمغتهم لتجريدهم من هويتهم الثقافية.
تقول الإحصائيات إن واحداً من كل ثلاثة أطفال من السكان الأصليين عاشوا نفس مصير إيلين، حيث كابدوا كماً هائلاً من التعذيب والعنف الجسدي والجنسي في أثناء فترات احتجازهم، ممَّا أدى في حالات متواترة إلى وفاة الضحايا الأطفال، الأمر الذي يحيلنا على جريمة إبادة جماعية حصلت كما يعرف ذلك القانون الدولي. فيما الناجون مثل إيلين، تضاعفت معاناتهم بحكم قسري بالغربة عن عائلاتهم وأقاربهم، فهي التي لم تقابل والدتها إلا حين بلغت سن 19، لم تعرفها والدتها أول الأمر وعانت من النكران وصعوبة الاندماج مجدداً في الحياة الطبيعية للعائلة.
جبر الضرر المتأخر والضروري..
أقرت الحكومة الأسترالية في مستجد أخير تعويضات للناجين من "الأجيال المسروقة"، بلغ قدرها 280 مليون دولار. هي خطوة يعيد مراقبون حدوثها لضغط الرأي العام العالمي حول قضية الإبادة والاضطهاد الذي عانت منه الشعوب الأصلية لكل من أستراليا وجزر المحيط الهادي والأمريكتين. حيث تعود القضية بشدة منذ أسابيع، انطلاقاً من خبر العثور على 182 قبراً غير موثق في مدرسة داخلية في مقاطعة بريتش كولومبيا الكندية، ما أثار ردود فعل احتجاجية عززت نضالات تلك الشعوب الأصلية من أجل حفظ ذاكرة الجرائم التي تعرضت لها، وجبر ضرر قرون من الإبادة المادية والمعنوية الثقافية.
كما يعود الفضل في قرار التعويضات تلك لنضال إيلين ورفاقها من الناجين بأستراليا، حيث استقبلته قائلة: "وأخيراً انضمت الحكومة الفيدرالية (الأسترالية) إلى الحفلة". واعتبر رئيس تلك الحكومة، سكوت موريسون، بأنها كانت "خطوة انتظرناها طويلاً، لا للتعبير فقط عن أسفنا العميق لما حدث وقتها، بل لتحمل مسؤوليتنا الكاملة إزاء ما وقع". فيما يذكر أن الحكومة الفيدرالية الأسترالية اعتذرت رسمياً سنة 1997 عمَّا حدث لـ"الأجيال المسروقة".
هذا وعلى الناحية الأخرى من المحيط الهادي، أقرت الحكومة الكندية سابقاً سنة 2006 تعويضات بمليارات الدولارات لـ80 ألف ناجٍ من ممارسات مشابهة لما حدث للسكان الأصليين بأستراليا. فيما لازالت "لجنة المطالب الهندية" تدفع الحكومة الفيدرالية بالولايات المتحدة الأمريكية من أجل تعويض القبائل التي صودرت أراضيها، كما يناضل نشطاء من أجل جبر ضرر الساكنة ذات البشرة السمراء المنحدرة من تاريخ العبودية في البلاد.