هل يصمد لبنان في ظل أزماته الخانقة؟
لم تعد الأزمة التي يعانيها لبنان جديدة على أبنائه، ففي 17 سبتمبر/أيلول المقبل يكون قد مرّ عامان على بدء الانهيار الاقتصادي والنقدي والاجتماعي، وبعد ثلاثة أشهر يكون قد مرّ عام على تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل حكومة جديدة من دون نجاحه بتشكيلها.
متظاهر يحرق الإطارات خلال احتجاج على الصعوبات الاقتصادية المتزايدة  في بيروت (Reuters)

لكن الأسابيع الماضية شهدت تدحرجاً متزايداً للأزمة إلى مستوى بدأ الحديث فيه عن احتمال انفراط الدولة سلطةً ووزارات ومؤسسات وإدارات وأجهزة عسكرية وأمنية وبلديات، وأن لبنان سيشهد انفلاتاً أمنياً وتشيع فيه الفوضى.

فإضافة إلى التراجع الكبير بسعر صرف الليرة والغلاء الفاحش للسلع شهد لبنان تراجعاً كبيراً في الخدمات الأساسية من تيار كهربائي وندرة مادتَيْ البنزين والمازوت بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة. كل ذلك أدّى إلى غضب واحتقان كبير من اللبنانيين وسخطهم على السلطة التي تقف عاجزة عن أي أمر يساهم بتخفيف أزماتهم، واستمرارهم بالانشغال في مناكفاتهم السياسية.

ما عزّز المخاوف من انفراط مؤسسات الدولة هو ما شهدته بعض المناطق من انفلات أمني، بخاصة في مدينة طرابلس التي تشكو منذ ما قبل الأزمة حرماناً كبيراً وغياباً لخدمات الدولة وارتفاعاً للبطالة ومعدلات الفقر.

فقد شهدت المدينة مؤخراً مواجهات محدودة بين مواطنين ساخطين والجيش اللبناني، وانتشر عشرات المسلحين في الأحياء الفقيرة وأطلقوا النار وأجبروا أصحاب المحال التجارية على الإقفال بالقوة.

بالتزامن مع ذلك أعلنت شرائح واسعة من القطاع العام الإضراب واستنكفت عن أداء مهامها. هذه المعطيات تشي بأن الاحتقان الشعبي بلغ ذروته، وأن تفاقم المعاناة واستمرارها سيؤدي إلى انفجار اجتماعي قد يجعل من ضبط الأمور وفرض سلطة الدولة مهمة مستحيلة.

إضافة إلى كل ما سبق فإن حالة الاحتقان والغضب التي تعمّ الشارع اللبناني جعلته بيئة خصبة للاختراق، ولتسلّل "طابور خامس" ربما تكون له مصلحة في انفلات الأمور، ما قد يعبّد الطريق أمام انفراط عقد الدولة وانهيار مؤسساتها وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية. لذلك سيكون من السهل على كل ذي مصلحة استغلال الاحتقان الشعبي والتهتّك المجتمعي والاستياء الذي يعمّ المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية الأخرى لتنفيذ مآرب أخرى قد يكون من بينها السعي لهدم الكيان اللبناني. لكن يبقى السؤال مرتبطاً بالجهة أو الجهات الداخلية أو الخارجية التي تملك مصلحة بانفراط عقد الدولة في لبنان.

فالأطراف الداخلية رغم الاتهامات الكثيرة لها بالفساد لن يصل فسادها إلى حدّ السعي لتدمير لبنان، بخاصة أنها مستفيدة من وجود الدولة وإن كانت ضعيفة. فحزب الله أكثر القوى اللبنانية قوة وتنظيماً وتماسكاً وشعبية، نجح في الإمساك بقرارات الدولة الاستراتيجية، وهو حريص على بقائها لأنها تمنحه شرعية الاحتفاظ بسلاحه، وتغطّي تدخلاته الخارجية في سوريا والعراق واليمن وأماكن أخرى.

وانهيار الدولة يعني انكشاف الحزب وفقدانه الشرعية والحظوة التي امتلكها في المنظومة السياسية القائمة، وهو غير معني بتغيير هذا الواقع، وسيسعى للإبقاء عليه ومنع انهياره. أما رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه السياسي صاحب أكبر كتلة نيابية والأكثر تمثيلاً للمسيحيين فإنه كذلك حريص على تماسك الدولة ونجاحها في تخطّي أزماتها.

البابا فرانسيس يستضيف قمة للصلاة من أجل لبنان  (AFP)

فرئيس الجمهورية لا يريد أن يُسجّل في تاريخ لبنان أن انهياره كان في عهده، بخاصة أنه يسعى لتوريث الرئاسة لصهره جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر. فإذا انهار لبنان، لن يكون بمقدور عون استكمال عهده الرئاسي الذي طالما انتظره، كما سيتعذر على باسيل الوصول إلى قصر بعبدا من بعده.

القوى السياسية الأخرى علاوة على استغلالها لموارد الدولة ومؤسساتها وبالتالي حرصها على بقائها لا تملك القدرة بمفردها على زعزعة بنيانها من دون مساعدة داخلية أو خارجية.

وعند التطرق إلى الجهات الخارجية المؤثرة في الداخل اللبناني يمكن الحديث عن أكثر من جهة. فالفاتيكان الذي يعدّ مرجعية روحية للمسيحيين في لبنان حريص على استقرار لبنان وتماسكه، وقد خصص البابا فرنسيس الأسبوع الماضي يوماً التقى فيه وفداً لبنانياً لمشاركته "يوم التأمل والصلاة من أجل لبنان" في الفاتيكان، تأكيداً لحرصه على لبنان الذي يعتبره كثيرون مركز المسيحيين في الشرق.

إلى جانب الفاتيكان تقف فرنسا التي بادر رئيسها إيمانويل ماكرون منذ بداية الأزمة لتقديم مبادرة لإنهاء الأزمة السياسية بعدما جمع القوى المتخاصمة في مقر السفارة الفرنسية ببيروت. الحرص الفرنسي على إنهاء الأزمة يعود إلى الدور التاريخي الذي طالما لعبته باريس في لبنان التي تعتبرها شريحة من اللبنانيين "الأم الحنون". هذا الدور من الطبيعي أن يدفع فرنسا إلى التمسك باستقرار الدولة اللبنانية التي باتت موطئ القدم الفرنسي الأخير في المنطقة.

الولايات المتحدة وإلى جانبها دول إقليمية أخرى كالمملكة العربية السعودية يصنّفون لبنان بأنه خاضع للهيمنة الإيرانية من خلال دور حزب الله فيه. لذلك هم حريصون على التضييق على لبنان ومنع وصول المساعدات إليه وإضعافه، لكن ذلك لا يعني السعي لانهياره وفرط مقوّمات الدولة فيه. فانهياره سينعكس سلباً على ملفات أخرى كسوريا وإسرائيل.

أما إيران فمصلحتها باستقرار لبنان مستمدة من مصلحة حزب الله لتغطيته ومنحه الحصانة والبيئة المستقرة الحاضنة. أما النظام السوري الذي يحتفظ بنفوذ في بعض المناطق، فهو قادر على التسبّب بزعزعة الأمن والاستقرار، لكنه لن يحيد عن المصلحة الإيرانية الحريصة على تحصين بيئة حزب الله.

تبقى إٍسرائيل التي قد تكون الجهة الوحيدة التي لها مصلحة بانهيار لبنان وتفكّكه، لكن مشكلة إسرائيل أنها لا تملك القدرة على تحقيق ذلك بسبب عجزها عن إيجاد نفوذ في الداخل اللبناني. فاللبنانيون يعانون أزمات كثيرة تضيّق الخناق حول رقابهم، لكنهم على الرغم من ذلك لا يزالون ثابتين على العداء لإسرائيل، وبالتالي فإن أي مؤشر على ضلوع إسرائيل بزعزعة الاستقرار سيُواجَه من اللبنانيين أنفسهم.

ضعف لبنان وزعزعة أمنه ربما تكون مصلحة للبعض، لكن هذه المصلحة تتوقف عند هذا الحد ولا تصل إلى مستوى التسبّب بانهياره وتفكّك مؤسساته، لأن حصول ذلك لا أحد يملك توقع نتائجه.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي