ربما فاجأ مجيء السفينة اليونانية اللبنانيين المنشغلين بهمومهم المعيشية، ومتابعة أداء النواب الذين أفرزتهم الانتخابات النيابية. لكن حسب المتابعين، كان وصول السفينة إلى المنطقة مقرراً ومعروفاً. لكن هذا لا ينفي أن وصولها أضاف ملفاً معقداً جديداً على أجندة لبنان، لا يقلّ تعقيداً عن الأزمة الاقتصادية والانهيار النقدي.
فملف ترسيم الحدود البحرية بخلاف الملفات الأخرى، ليس شأناً داخلياً يمكن للسلطة في لبنان أن تتعامل معه بخفّة، أو أن تستنفر الحساسيات الطائفية لتمريره، أو أن تبرم تسويات وصفقات مع القوى الأساسية لحفظه في الأدراج. هو ملف مرتبط بالعلاقة مع دولة يصنّفها لبنان على أنها "عدوّة"، والإدارة الأمريكية تتابع هذا الملف من كثب، وخصّصت له مندوباً للوساطة غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل.
الموقف الرسمي من قدوم الناقلة "أنرجان باور" إلى المنطقة، تَمثّل ببيان مشترك من رئيسي الجمهورية ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي، توافقا فيه على دعوة الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين للحضور إلى بيروت لاستكمال المفاوضات لترسيم الحدود البحرية الجنوبية والعمل على إنهائها في أسرع وقت، واعتبرا أن أي أعمال استكشاف أو تنقيب أو استخراج تقوم بها إسرائيل بالمناطق المتنازع عليها تشكل عملاً عدوانياً يهدّد السلم والأمن الدوليين، وتعرقل التفاوض حول الحدود البحرية.
بالتزامن مع الموقف الرسمي، برز موقف لحزب الله عبّر عنه نائب الأمين العامّ للحزب نعيم قاسم الذي اعتبر أن "الحزب مستعدّ لاتخاذ إجراءات من بينها استخدام القوة ضدّ عمليات التنقيب الإسرائيلية عن الغاز في المناطق البحرية الحدودية، إذا أعلنت الحكومة أن هذه العمليات تنتهك حقوق لبنان".
هذا الموقف الذي يتناغم مع الموقف الرسمي كشف عن حذر الحزب في مقاربة ملف الحدود البحرية، والاختباء وراء موقف الدولة اللبنانية المتخبط أصلاً، بخلاف موقف الحزب من ترسيم الحدود البريّة مع إسرائيل عقب العدوان على لبنان عام 2006، والخلاف مع الأمم المتحدة وإسرائيل حول الخط الأزرق. وربما يعود حذر الحزب إلى رغبة إيرانية بعدم افتعال أزمة جديدة، تساهم بتوتير العلاقة بين طهران وواشنطن، في وقت تسعى فيه جميع الأطراف للتوصل إلى اتفاق نهائي حول الملف النووي الإيراني.
الاهتمام الأمريكي بملف ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل ليس جديداً، فواشنطن قادت مفاوضات تقنية غير مباشرة بين البلدين انطلقت في أكتوبر/تشرين الأول 2020، وعقدت خمس جولات، كان آخرها في مايو/أيار 2020، أفضت إلى تأكيد الوسيط الأمريكي أن يكون التفاوض محصوراً بين الخط الإسرائيلي والخط اللبناني المودعَين لدى الأمم المتحدة، وهذا يعني أن يقتصر التفاوض على المساحة البالغة 860 كيلومتراً مربعاً أي الخط 23.
ويعتبر البعض أن الاهتمام الكبير الذي توليه الولايات المتحدة لملف ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، لا يستهدف تأمين مصالح حليفتها إسرائيل فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تأمين خطوط نقل طاقة آمنة، بعيداً عن مصادر الطاقة الروسية، وأن الهدف الحقيقي من وساطة الولايات المتحدة بين لبنان وإسرائيل، لا يسعى لترسيم الحدود بين البلدين، بل لإغراق لبنان بمفاوضات طويلة الأمد حول ملف الترسيم، تؤدي إلى تأخير أو تعطيل استخراج الغاز اللبناني، في الوقت الذي تكون فيه إسرائيل قد نقّبت واستخرجت ونقلت وباعت غازها للدول الأوروبية بإشراف الولايات المتحدة، بعيداً عن الغاز الروسي.
مقابل المخاطر التي تترصد المصالح البحرية للبنان، برز إرباك وضياع السلطة اللبنانية في كيفية إدارة ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وغياب أي رؤية واضحة لكيفية التعاطي معه.
فالمشكلة لا تتعلق فقط بكيفية إدارة التفاوض، بل وصلت إلى عدم الاتفاق على الحدود البحرية التي يمكن الانطلاق منها لبدء التفاوض.
وتعود جذور هذا التشتت إلى العام الماضي، حين توصلت لجنة مختصة من الجيش اللبناني لتحديد إحداثيات جديدة للحدود الجنوبية والجنوبية الغربية للمناطق البحرية اللبنانية، وتبيّن لها أن مساحة إضافية تتبع لبنان تزيد على المساحة التي سبق للسلطات اللبنانية أن أقرّت بها وثبّتتها في المرسوم رقم 6433 الصادر عام 2011 الذي تمّ حفظه في الأمم المتحدة.
فاستناداً إلى تعديلات الجيش اللبناني، المساحة الإضافية التي تتبع لبنان تنقل حدوده البحرية من الخط المعروف بالرقم 23 إلى الخط رقم 29، وهو ما يضيف إلى حصة لبنان البحرية 1430 كيلومتراً مربعاً إضافية على المساحة السابقة المقدرة بـ860 كيلومتراً، التي تقع ضمن الخط 23.
الأهم من ذلك أن الخط 29 الذي يعتبر الجيش اللبناني أنه يشكّل حدود لبنان البحرية، يقع ضمنه جزء من حقل "كاريش" الذي تعتزم إسرائيل بدء التنقيب فيه عن الغاز، والسفينة "أنرجان باور" اتجهت إليه لبدء استخراج الغاز خلال ثلاثة أشهر، مما يعني أن إسرائيل بدأت التنقيب في منطقة متنازَع عليها مع لبنان، والخط 29 إذا ما تمّ تثبيته كحدود بحرية للبنان، فإنه يعطي السلطات اللبنانية الحقّ في التفاوض على حقوقه في هذا الحقل.
دراسة الجيش اللبناني تلقفتها الحكومة آنذاك برئاسة حسان دياب، فأصدر مجلس الوزراء مشروع مرسوم قضى بتعديل المرسوم السابق بتحديد حدود لبنان البحرية من الخط 23 إلى الخط 29، ووقّع المرسوم الوزراء المعنيون ورئيس المجلس، وتمّت إحالته إلى القصر الجمهوري كي ينال توقيع رئيس الجمهورية ميشال عون ليصبح نافذاً، وكان منتظَراً أن يسارع عون لتوقيعه بعدما سبق أن أعلن دعمه لما توصلت إليه دراسة الجيش اللبناني بتعديل الحدود البحرية، لكن اللافت كان امتناع رئيس الجمهورية عن توقيع المرسوم لأسباب مجهولة، مما أثار استنكاراً واستياءً لبنانياً، واستغراباً من حلفاء فريق رئيس الجمهورية. هذا الإرباك جعل الخلاف حول الحدود البحرية ليس بين لبنان وإسرائيل، بل بين اللبنانيين أنفسهم. فريق يعتبر الحدود هي الخط 23، وفريق آخر يتمسك بتعديل الحدود على الخط 29، الأمر الذي سيُضعِف الموقف التفاوضي للبنان، ويدعم موقف إسرائيل التي تصر على الانطلاق في التفاوض من الخط 23، وهذا يمنحها الحق منفردة في التنقيب واستخراج الغاز من حقل كاريش.
المؤكد هو أن ملف ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل سيشكل مادة للنزاع خلال السنوات المقبلة، وإذا ما استمرّ الإرباك اللبناني في كيفية التعاطي معه والخلاف الداخلي حوله، فإن ذلك سيكون بمثابة هدية للجانبين الإسرائيلي والأمريكي.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.