لا شك أن دولاً عديدة في المنطقة والإقليم بذلت في سبيل استقرار ليبيا أثماناً معتبرة لن تكون بمعزل عن المرحلة المقبلة، وهو أمر منطقي تماماً. غير أن السؤال الذي يُطرح في هذا الصدد هو:
هل ستتصرف هذه الدول بمنطق مصلحتها ومصلحة ليبيا معاً أم بمنطق مصلحتها فقط؟ هل سيقبل الليبيون مزيداً من الوجود الأجنبي في الفترة المقبلة؟ هل سيقتصر الدعم الأجنبي على مواصلة التعاون المشترك والمناورات الثنائية أم ستواصل الدول الداعمة الحضور الميداني؟
بداية لا بد من الإشارة إلى التقارب المصري التركي الذي لم يكن مفاجئاً للمتابعين عن قرب للمشهد الليبي، خاصة أننا نتذكر القنوات الخلفية التي فتحتها تركيا مع مصر عبر عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي. كما تابعنا الأنباء المتواترة حول التقارب المصري التركي الذي كان على الأراضي الجزائرية، وفق بعض المصادر التي تؤكد أن الملحقيتين العسكريتين التركية والمصرية شرعتا في نقاش هادئ رصين وبعيد عن عدسات المصورين، وتم بعد لقاءات معدودة تحويل الملف الليبي من الجهاز الأمني إلى الجهاز الدبلوماسي، وتوج الأمر بزيارة مسؤولين رفيعي المستوى من تركيا إلى مصر، قابلته مصر بإشارة إيجابية في ما يتعلق بإبقاء الحدود البحرية مع اليونان دون ترسيم، بما يُفهم منه مغازلة السلطات في تركيا وتأكد تلقي الرسالة.
الأكيد أن الملف الليبي فيه من التعقيدات ما يتجاوز العلاقات المصرية/الخليجية من جهة والتركية من جهة أخرى، لكن من المؤكد أيضاً أن تهدئة بين هذه الأطراف قادرة على توفير حد أدنى من المشترك في الإقليم يوفر لليبيا بذور حل مستدام.
من جانبها، وهو ما يفهم على أنه تأكيد لهذا المسار التوافقي، أكدت حكومة الدبيبة والمجلس الرئاسي مجتمعين تجديد التزامهما بمسار جنيف مع مراعاة بعض الشروط مثل مراعاة التوزيع الجغرافي، ومشاركة المرأة والشباب، واللامركزية، والعدالة في إدارة الثروة.
إن النتائج المرجوة من حكومة الوحدة الوطنية عالية، وسقف التوقعات كبير لكن الوثائق الرسمية الأممية المعتمدة للحكومة حددت مهامها بخريطة طريق ذات أهداف واضحة، تتمثل في تعزيز الشرعية السياسية عبر انتخابات رئاسية وبرلمانية تنهي المرحلة الانتقالية على أساس دستوري جديد.
كما تعمل على بسط السيطرة على كل الأراضي الليبية وتوفير الأمن وإنهاء حالة النزاع والوجود الأجنبي، مع معالجة المختنقات الإدارية والمالية والمجتمعية التي تحول دون تمكين الدولة من ممارسة مهامها، إضافة إلى إطلاق مسار مصالحة وطنية.
أما في ما يتعلق بأهم المبادئ الحاكمة لخريطة الطريق التي يُنتظر من حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا أن تلتزم بها فهي تتلخص أساساً في الالتزام بمبادئ الاتفاق السياسي الليبي، والمساواة الكاملة بين كل مواطني ليبيا وفق المواثيق والقوانين المصادق عليها من الدولة الليبية، والاحتكام للوسائل السلمية الديمقراطية في إدارة التنافس السياسي، والتداول السلمي على السلطة، وقبول الجميع بقواعد اللعبة الديمقراطية.
أما في ما يتعلق بالإطار الزمني لخريطة الطريق التي وافقت عليها حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي فهي تنتهي، نظرياً على الأقل، في 24 من ديسمبر/كانون الأول من العام الجاري بإجراء انتخابات عامة.
أما في ما يتعلق بأولويات حكومة الوحدة الوطنية فهي تتمثل في إنجاح الاستحقاق الانتخابي، سواء من خلال إجراءات بناء الثقة أو مسار المصالحة (بالاشتراك مع المجلس الرئاسي الذي يقع على عاتقه الجزء الأكبر من المسار).
تكمن خطورة التحدي في الكم الكبير من المهام التي ستواجه حكومة الدبيبة في مقابل الوقت القصير الذي بقي في عمرها (حوالي 8 أشهر فقط)، لكن الأكيد أن الدبيبة انطلاقاً من الاستراتيجية التي أبان عنها سيقصر مهام حكومته على تحييد دول الجوار الشرقي، حيث استهل زياراته الخارجية، حتى قبل الحصول على المصادقة على حكومته، بزيارة مصر في رسالة طمأنة واضحة، واستئناف التعاون البيني بنسق كبير مع تونس، حيث استقبل الرئيس التونسي قيس سعيد وسط تحضيرات كبيرة وجادة لعقد اللجنة العليا للبلدين برئاسة رئيسي الحكومتين. ومحاولة حسم النقاش حول الدور التركي منذ الأيام الأولى لفوز قائمته برئاسة الحكومة بالتشديد على أن التعاون التركي استراتيجي ومستدام.
كل هذه المحفزات الإيجابية لا يجب، ولا يمكن أن تخفي عن أعيننا، بعض المعوقات التي قد تحول دون تحقيق الإنجازات المرجوة. ومن هذه المعوقات على سبيل المثال وجود أعداد من المرتزقة لا يُعرف مصيرهم بعد، وإفلات عدد من المجرمين ممَّن طلبتهم محكمة الجنايات الدولية من العقاب، إضافة إلى اهتراء البنية التحتية وتفشي ظاهرة الفساد التي احتلت ليبيا في مؤشر مدركات الفساد فيها مراتب متأخرة.
الأكيد أن ليبيا قطعت مع نموذج العسكرة وتوجهت نحو الدولة المدنية الديمقراطية الموحدة، وهي على الأرجح تبحث عن شركاء جديين بشرط أن تكون شراكة متوازنة تراعي السيادة الليبية ومصالح ليبيا ودول الجوار المباشر، بما يوطن السلم والتنمية والتعاون المتبادل ويوفر فرص التكامل والإسناد المتبادل.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.