أفرزت لنا نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة التي أجرت الأحد الماضي، حتمية تكرار مشهد الدورة الثانية من عام 2017 حيث ستنحصرُ المنافسة مجدداً بين مرشح "الجمهورية للأمام" الرئيس إيمانويل ماكرون الذي حاز (27,84 %) من الأصوات فيما نالت مارين لوبان مرشحة "التجمع الوطني" اليميني المتطرف (23,15 %) من الأصوات، فيما أقصي السباق كل من مرشح حزب "فرنسا الأبية" اليساري الراديكالي جان لوك ميلنشون الذي حاز (21,95 %) من الأصوات ليتخطى ما كان متوقعاً منه فيما جاء رابعاً مرشح "حزب الاسترداد" اليميني المتطرف إيريك زمور الذي حصد (7%) من الأصوات فقط.
ولكن رغم هذا فإن المتأمل في هذه الأرقام لا يمكنهُ أن يغفل عن التنامي المتزايد لليمين المتطرف في فرنسا؛ فلو نظرنا فقط للأربعة الأوائل نجدُ أن اليمين المتطرف هو من يتصدرُ المشهد بأكثر من 30 في المئة من أصوات الفرنسيين في هذه الانتخابات، وهو رقمٌ مخيفٌ لو أدركنا تبعات سردية اليمني المتطرف ليس فقط على وروبا وفرنسا ولكن كذلك على المسلمين والمهاجرين والأقليات الموجودة بكثرة في مختلف المناطق الفرنسية.
ولذلك لا نستغربُ أن جان لوك ميلنشون صرحَّ بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ عقبَ خسارتهِ بضرورة عدمِ التصويتِ لليمين المتطرف بالتحديد (أي مارين لوبان) وذلك لإدراكه مدى الويلات التي يمكنُ أن يجرها هذا التيار على فرنسا وعلى الأقليات الدينية والعرقية خاصة المسلمين والأفارقة والعرب.
وحتى نفهمَ خطورة اليمين المتطرف الذي تقودهٌ لوبان في فرنسا يجبُ معرفة انها تسعى بشكلٍ حثيثٍ لجعل فرنسا تنسحبُ من قيادة منظمة حلف شمال الأطلسي، وكذا توجيهِ ضربة أخرى للاتحاد الأوروبي الذي لازالت ترفضُ سياستهُ وتعتبرهُ أحد مشاكل فرنسا، وهو ما يقودنا مباشرة لسعيها نحوَ تعديل الدستور الفرنسي للحد من مكانة المهاجرين في المجتمع الفرنسي.
ولأن الشعبوية مفهومٌ لصيق ٌ باليمينِ المتطرفِ، فإن حملة لوبان لم تبنى على الترويج لمواقفها المعادية للمسلمين والأقليات الدينية والعرقية وهي عمادُ سردية اليمن المتطرف في فرنسا والتي لم تتغير يوماً؛ إلا أن لوبان توسلت بالشعوبية من أجل دغدغة عواطف الفرنسيين بمخاطبتهم بلغة المعيشِ اليومي؛ حيث سعت لمخاطبة ملايين الفرنسيين المنتمين لطبقة الوسطى المتذمرين من ارتفاع وغلاء المعيشة وهو الأمر الذي جذب ملايين الناخبين في جميع أنحاء فرنسا من الطبقة الوسطى والعاملة الذين يشعرون بالتجاهل من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون المتهمِ بقربهِ من دوائر صناعة القرار الاقتصادي.
فرغم تواشجِ العلاقات بين اليمين المتطرف الفرنسي واليمين الروسي الذي يقودهُ فلاديمير بوتين، والذي أعرب عن نفسهِ في عديدٍ من المناسبات مثل اظهارِ لوبان اعجابها ببوتين، والتي تظهرُ مدى تقاربَ الجانبين في العقيدة السياسية على حد تعبير " انطون شيخوفتسوف" في كتابهِ "روسيا واليمين المتطرف الغربي" ، إلا أن لوبان حاولت عدم خسارة مؤيديها جراء الغزو الروسي لأوكرانيا والذي لقي تعاطفاً فرنسيا كبيراً، بل حاولت أن تتوسل بالشعبوية كما أشرنا من أجل ركوبِ موجة الغلاء، لتعد الفرنسيين بخفض الضرائب على الوقود والسلع الضرورية الأخرى ومنح الشركات حوافز لزيادة الأجور.
انتهجت لوبان استراتيجية تخفيف حدة خطابها المثقل بالأيديولوجية الاقصائية اتجاه المهاجرين والمسلمين خاصة، وهو نهجٌ جديد يرادُ منهُ توسلُ الأصوات الرافضة لسياسات ماكرون الداخلية خاصة، كل هذا ساعدها على أن تحصل على نسبة 22.9٪ من الأصوات المقدرة في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
ولكن يظلُ السؤال الذي يعربُ عن نفسهِ هل لوبان غيرت سرديتها المتطرفة اتجاه المسلمين والأقليات العرقية، طبعاً لا، لذا فإن انتصارها لازالَ يمثلُ تهديداً لهذه الأقليات العرقية والدينية في فرنسا، بل ويهددُ الديمقراطية وقيم الليبيرالية التي خرجت في يومٍ من الأيام من رحمِ فرنسا في حقبة الأنوار.
فلوبان وزمور هما أحدُ وجوهِ التطرفِ الذي يخفي نفسهُ تحت مسميات الدفاع عن الوطنية وقيم الجمهورية، فإن كان النموذج الفرنسي شهدَ منذ عام 1905 وجودَ "علمانية حازمة " حسب تعبير المفكر التركي أحمد كورو، فإن لوبان وزمور هما وجهٌ متطرف لهذه العلمانية الحازمة، لا يمكنُ إلا أن ننتظر منها تقسيمَ المجتمعِ الفرنسي وجعلِ الخطابِ الشوفيني يمسكُ بتلابيبِ المؤسسات الفرنسية، وهو ما سيكونُ انهزاماً حقيقياً لتيارات الديمقراطية في أوروبا عموماً.
ولكن يجبُ أن نلفت الانتباهَ لمسألة مهمة مفادها أن فرنسا تشهدُ نوعينِ من اليمين؛ النوعُ الظاهرُ منهما تقودهُ لوبان وزمور إلا أن اليمين المستترَ الذي لا يعربُ عن نفسهِ بشكلٍ مباشر هو اليمين الذي يقودهُ الرئيس إمانويل ماكرون الذي تحصل على 28.2٪. في الجولة الأولى.
ماكرون وإن لم يكن يمينياً في جوهرِ سرديتهِ وإيديولوجيه إلا أن لديهِ استعداداً لكي يغدو كذلك عندَ الضرورة، فإن كانت لوبان خففت من نبرة الأدلجة التي تسكنُ خطاباتها بُغية توسيع وئاعها الانتخابي فإن ماكرون رفع من وتيرة هذه الأدلجة في محطاتٍ عديدةٍ خلال فترة رئاستهِ الأولى.
وأحدُ هذه المحطات خطابهُ عن محاربة "الانفصالية الإسلاموية"، التي طالب فيها بضرورة إصلاح الإسلام، وهو بذلك يعربُ عن صورة متطرفة للعلمانية الفرنسية الحازمة حسب تعبير كورو، التي ترمي إلى استبعاد الرموز الدينية من المجال العام، والتي لا تخلوا من رُهاب الإسلام (Islamophobia)، بحكم ما لها من تأثير متزايد على المشهد السياسي الفرنسي.
هذا الخطاب مردهُ في العمق منافسة ماكرون لمارين لوبان، حيث يحاول ماكرون من خطابه استمالة ناخبي اليمين من أجل الفوز في الانتخابات الرئاسية في أبريل 2022، هذه النظرة التي بثها ماكرون في سردية "إصلاح الإسلام"، تظهرُ كذلك نظرتهُ للعالم العربي والإسلامي الذي لا يتعاملُ معهُ سوى من بوابة صفقات السلاح التي سعى لتطويرها وإن كان ذلك مع الأنظمة الاستبدادية وهو ما كشفت عنهُ مجموعة من التحقيقات.
ماكرون الذي تصدر خطاب "تأزم الإسلام"، فندَ بعمقِ مقولتهُ التي قالها مرة بأن "العلمانية لم تقتل أحداً"، بل علمانيتهُ (علمانية فرنسا الحازمة) التي زودها بجرعة من تطرفِ اليمينِ المستتر قتلت ملايين من الأبرياء عبر صفقات السلاح التي قام بها ماكرون مع الأنظمة الاستبدادية العربية والتي وثق بعض ملامحها تحقيقُ موقعِ (Disclose).
وكخلاصة فإن هذه الانتخابات انتصارٌ لليمين؛ سواء اليمين الذي يعربُ عن نفسهِ بشكلٍ واضحِ ويستترُ عندَ الضرورة، أو اليمينِ مستترِ والمعربِ عن نفسهِ فقط عند الضرورة الانتخابية، والضحية دائماً هي قيم الديمقراطية والحرية وكذا الأقليات والمهاجرين والمسلمين.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.