فهذه الدولة التي نالت استقلالها عن فرنسا عام 1960ما تزال تعاني من فقر شديد وفساد إداري وبطالة وأزمات اقتصادية وتراجع حاد في خدمات التعليم والصحة والبنية التحتية والقوانين.
كما أنّ معظم مناطق البلاد تعاني من انفلات أمني وانتشار للحركات المسلحة... كل هذه الظروف التي تراكمت دهونها الضارّة دفعت التشاديين للاقتناع بأن بلادهم لم تحظَ باستقلال حقيقي يمكّنها من استثمار ثرواتها الهائلة دون أن تأكل منها فرنسا النصيب الأوفر.
ويعتقد أكثر التشاديين أن فرنسا سبب رئيس في انهيار المشروع الوطني التشادي، وأنه لا سبيل للخلاص إلا بإبعاد فرنسا عن المشهد التشادي، وربط العلاقة بها بالمصلحة الثنائية المشتركة ومقتضيات السيادة الوطنية، ولكن الواقع ما زال يفرض بقوة الحقيقة المرّة بأنّ النفوذ الفرنسي في تشاد قويّ ومؤثر منذ زمن طويل، وليس وليد الساعة، وهو شديد الحضور في الثقافة والتعليم والسياسة.
وهذا النفوذ ممتدّ في اتجاهات سياسية مختلفة، فهناك نفوذ رسميّ في مؤسسات السلطة والجيش والأمن والاقتصاد والمنظومة القانونية والتشريعية؛ وهناك نفوذ فرنسيّ لا يقل حضوراً لدى المعارضة التشادية السياسية أو العسكرية من ذوي الثقافة الفرنسية الذين ارتبطت مصالحهم وبداياتهم وفرصهم بفرنسا، ويجدون في فرنسا ساحة خلفية لنشاطهم الإعلامي وعلاقاتهم الأوروبية ومقعداً دائماً لاستدعاء فرنسا في أيّ شأن داخليّ تشاديّ.
فقد وفرت لهم فرنسا منصة متعددة الواجهات، وباتت فرنسا تعرف القوى التشادية جيداً، وهو الأمر الذي يجعل فرنسا ممسكة بخيوط اللعبة التشادية بما يرضي جميع الأطراف بحسابات وأوزان مقدّرة يمكن تغييرها إذا لزم الأمر في حسابات الميدان.
وتشاد بالنسبة لفرنسا ليست دولة عادية فهي إحدى أهم مفاصل العمود الفقري الفرنسي في إفريقيا، وهي مركز نشط فعّال تطلّ فرنسا من خلاله على منطقة الساحل والصحراء في إفريقيا، وقد ارتبطت فرنسا وتشاد باتفاقيات عسكرية منحتهم الحق في إقامة قواعد متقدمة وفضاء مفتوح للتحليق مقابل حماية فرنسية ودعم متصل للنظام ضد أي تهديد خارجيّ أو تمرّد داخليّ.
ومن المعلوم أن العاصمة إنجامينا هي مركز القيادة المركزية لواحدة من أقوى مراكز التدخل العسكري الفرنسي في إفريقيا وهي قوة "برخان" لمكافحة الإرهاب في الساحل والصحراء حيث يتمركز فيها أكثر من 1000 جندي فرنسي والمئات من طائرات الميراج الفرنسية المقاتلة التي تمنح فرنسا ذراعاً جوية طويلة للقضاء على أعدائها وخصومها وتهديدهم، كما أن الجيش التشادي الذي تدعمه فرنسا هو أحد ركائز هذه القوة من خلال مشاركة العنصر البشري التشادي العسكري في معظم حملات هذه القوة ومراكزها المنتشرة.
وبعد التطورات الخطيرة التي أخرجت فرنسا من مالي ومن إفريقيا الوسطى ومن بوركينا فاسو لصالح غريمتها اللدود روسيا قررت فرنسا تعزيز حضورها في تشاد وتعويض خسارتها الاستراتيجية في هذه الدول، واستطاعت المنصات التشادية الغاضبة توثيق هذا التمدد الفرنسي في مناطق تشادية جديدة.
وكشفت عن إقامة خمس قواعد عسكرية جديدة في البطحاء وأم التيمان وأدري وور...، علماً أن لها قواعد في العاصمة إنجامينا وأبشة في شرق البلاد وفايا في الشمال الأوسط.
ولم يكتف المحتجون التشاديون بتحميل فرنسا المسؤولية بل حمّلوا ممثلي الوجود الفرنسي وداعميه من التشاديين مسؤولية هذا الواقع الأليم لبلادهم، وتطوّر الأمر ليتحول إلى صراع هويات وثقافات، فحمّلوهم حرمان قطاع من الشعب التشادي المنتمي إلى الثقافة العربية والإسلامية من ممارسة حقوقه الوطنية بالتساوي مع ذوي الثقافة الفرنسية مثل حرمانهم من الدخول في المؤسسة الوطنية للإدارة، ومنع فتح كلية للطب باللغة العربية في جامعة الملك فيصل، وحجب المناصب الكبيرة والمؤثرة في الدولة عنهم.
وعندما اشتعلت الأحداث بما بات يُسمى بحِراك 14 مايو من خلال تظاهرة مصرّح بها دعت لها تنسيقية "وكِتْ تَمّا" وتعني الوقت تم وحان لخروج الفرنسيين واستعادة السيادة الوطنية التشادية فإن هذا الحراك قد اشتعل بسرعة لينتظم معظم المدن التشادية الغاضبة.
ووجدَ أن إعلان معارضة فرنسا قد يكون أخفّ عليها من إعلان معارضة النظام العسكري الانتقالي الذي هو امتداد طبيعي للحقبة السابقة بكل خلفياتها وانحيازاتها السياسية والأمنيّة وممارساتها.
وتعاملت السلطات بمنطق أمنيّ بحت مع هذه الاحتجاجات التي اعتقد النظام أنها ستجد عشرات المبررات الواقعية لتوسيع دائرة احتجاجها بما يهدد مصالح النظام ومصالح فرنسا الذي تدعمه، فشنت السلطات الأمنية حملات اعتقال لا تستثني أحداً متذرعة بأنها تواجه بعض المخربين المندسين الذين أحرقوا محطات الوقود الفرنسية، وأتلفوا ممتلكات عامة وخاصة، وأحرقوا رموز الصداقة مع فرنسا.
وتطوّر الأمر في أبشي التي كانت إحدى حواضر سلطنة ودّاي الإسلامية باقتحام القاعدة العسكرية الفرنسية وإنزال العلم الفرنسي ورفع العلم التشادي مكانه، وهناك استذكر التشاديون مجزرة كبكب التي قتل فيها الفرنسيون في مجزرة دموية نحو 400 عالم وفقيه تشادي عام 1917 في منطقتهم، وأحرقوا الكتب الإسلامية، وفرضوا ثقافتهم الأجنبيّة على الأهالي بالدماء.
وازدادت الأمور سوءاً باعتقال ستة من قادة الحراك وهم السفير السابق الأمين الدودو عبد الله الخاطري، ووزير الخارجية السابق والمستشار في رئاسة المجلس العسكري الانتقالي السابق حسين مسار حسين، ومنسق حركة وقت تما المحامي ماكس لونغار، ورجل الأعمال يوسف كورم، والمحامي كوديه مبيسم، والنقابي قوقونق فايمان.
ودخل القادة الستة في إضراب مفتوح عن الطعام منذ 23 مايو احتجاجا على اعتقالهم عقب مشاركتهم في مسيرة 14 مايو ونقلهم من سجن كلوسم إلى سجن مدينة موسورو البعيد عن مناطق سكنهم رغم وعود رئيس المجلس العسكري الانتقالي بإطلاق سراحهم.
وترافق مع هذا السلوك الأمنيّ استهداف بعض المشايخ والشخصيات الداعية إلى تمكين اللغة العربية وإنصافها وتعزيز ثقافتها بدل الانغماس في اللغة الفرنسية وثقافتها والتبعية للوبي المحسوب على فرنسا، وكان من جملة المعتقلين الشيخ إبراهيم عثمان إبراهيم في مدينة أبشي بشرق تشاد الذي أعلن أن خطبته في جمعة الغضب 20 مايو ستكون بعنوان: أضرار فرنسا.
ودخلت نقابة محامي تشاد في إضراب احتجاجاً على سلوك الشرطة وعدم إطلاق سراح المحتجزين، وانسحب اتحاد نقابات عمال تشاد من الميثاق الانتقالي وهدد بالدخول في إضراب عام، ونسقت المعارضة التشادية نشاطها في إطار شعبي يدعو لإلغاء اتفاقية المشاركة الوطنية بين تشاد وفرنسا ومنع الفرنسيين من استعمار تشاد مجددا والتدخل في شؤون تشاد، وجعلت ذلك شرطاً لاستئناف الحوار الوطني التشادي في الدوحة.
وكان لافتاً صدور بيان صحفي مشترك عن مجموعة الدوحة ومجموعة روما وهي من الحركات السياسية العسكرية ذات الخط الوطني والعروبي وذات الخط الفرنسي المشاركة في مفاوضات السلام التشادية برعاية قطرية يدين استخدام القوة ضد المتظاهرين وخاصة في حرم جامعة الملك فيصل، وحمّلت الحكومة مسؤولية التصعيد، وأيدت المطالب التي حملها المحتجون؛ وتعالى الغضب لدى طائفة من المحتجين الذين تعمدوا إظهار غيظهم وحنقهم على فرنسا وأدواتها في تشاد برفع الأعلام الروسية، ومحاولة الاتصال بالروس الذين لا يخفَى عداؤهم للنفوذ الفرنسي في إفريقيا، وتشجيعهم العملي لأي حراك يعادي فرنسا، لكن بعض الأصوات الوازنة في تشاد أعلنت رفضها استبدال استعمار باستعمار.
هذه الأحداث في انجامينا وفي إقليم البطحاء وأتيا وأبشه وأم التيمان ومدينة أم حجر، رددت شعارات قوية ضد الفرنسيين، وأصبح الشعار الأكثر حضوراً وهتافاً على المستوى الشعبيّ: ( تشادْ حرّهْ... فرنسا برّهْ).
لم تتجاهل فرنسا هذه الموجة العالية الداعية إلى إخراجها من قلعتها التشادية، ورغم أنها تركت الأمر للسلطات التشادية للتعامل مع الأمر إلا أنها نشطت في الأروقة الداخلية لحماية نفسها من السقوط، ولم تجد بُدّاً من استخدام أوراق إقليمية لتهدئة الغضب الداخلي، ومنع استدعائه لعناصر خارجية، ولهذا لم يكن مفاجئاً زيارة برونو فوشيه مبعوث فرنسا لمنطقة الساحل والصحراء السودان يوم 16 مايو/أيار حيث التقى نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي" وتباحث معه بشأن تطورات الأوضاع في تشاد، وعن دور السودان في إنجاح حوار الدوحة الذي تدعمه فرنسا، ولا شك أن عين الفرنسيين لم تبتعد عن الزيارة المثيرة للجدل التي قام بها دقلو لموسكو مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا.
وكما أن النفوذ السياسي والأمني لفرنسا بات مهدداً في تشاد أيضاً فإنّ النفوذ الاقتصادي لها بات كذلك أيضاً من خلال الخشية من وقف الاحتكار الفرنسيّ للثروات والأسواق الإفريقية، وتحجيم دور الشركات الفرنسية العاملة في مجال التنقيب واستخراج المعادن النفيسة.
كما أن الفرنك الإفريقي الذي هو أحد أشكال الهيمنة الاقتصادية الفرنسية سيعاني كثيراً إذا تعرض لضربة أخرى من تشاد، وتوقفت تشاد عن ضخّ هذه العملة في الخزينة الفرنسية وإيداع احتياطياتها في بنوكها، وتحويل الأموال في منطقة الفرنك الإفريقي إلى فرنسا.
وهذا الخطر الذي تتحسب له فرنسا سيمتدّ في أية لحظة إلى السنغال والنيجر حيث تتنامى فيهما مشاعر العداء للفرنسيين، ويرون أنه بات واجباً أن تنظر هذه الدول إلى قوى أخرى غير فرنسا لتغيير واقعها دون أن تكون تابعة لأي كيان استعماري خاصة مع نمو العلاقات الاقتصادية بدرجة كبيرة مع دول غير فرنسا مثل ألمانيا والصين وتركيا وروسيا.
ويمكن القول إن أخطر ما في السياسة الفرنسية في إفريقيا مما يثير مشاعر الكراهية لها أنها مرتبطة بالعسكرة وليس بتبادل المصالح واحترام سيادة الدول، وهذه السياسة تقتضي منها أن تكون فوق المساءلة والشفافية، وهذا يحتاج إلى منظومات ديكتاتورية حاكمة تغطّي هذا السلوك الفرنسي الاستعماريّ المستعلِي، وقد يحتاج إلى إسناد غير مباشر لمنظومات الإرهاب في المنطقة لإبقاء الحاجة الملحة للوجود العسكري الفرنسي ونفوذ الاستراتيجية الفرنسية، وزرع مزيد من الخوف والإرهاب في إفريقيا.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.