وليس المهاجر مجرد عابر في الأزمنة والأمكنة، يبحث عن لقمة عيش، على هامش الواقع، وإنما هو ذاك الذي يغير وسيغير شكل العالم، ويعيد كتابة تاريخه من جديد، تماما كما فعل المهاجرون الأوائل الذين مكنوا الإنسانية من اكتشاف الكثير من الآفاق.
لقد جاء في تقرير الهجرة العالمي لسنة 2019، أن عدد المهاجرين الدوليين وصل إلى 272 مليون مهاجر، يعيش ما يقارب 50.7 مليون منهم في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعد المقصد الأول للهجرة الدولية، وبالمقابل فإن الهند والمكسيك والصين تعد من أكثر البلدان تصديرا للهجرة، حيث يصل مجموع مهاجريها إلى نحو 40 مليون مهاجر (17.5 مليون هندي، 11.8 مليون مكسيكي و10.7 مليون صيني).
وفضلا عن ذلك فإن تحويلات المهاجرين المالية إلى بلدانهم الأصلية، فاقت خلال ذات السنة 689 مليار دولار، ما يؤكد الإسهام التنموي الهام الذي تضطلع به الهجرة الدولية.
إن هذه الأرقام تكشف عن الحضور الكمي والكيفي للهجرة في تدبير الواقع وامتداداته المجتمعية، محليا ودوليا، فالهجرة أكبر من أن تكون مجرد انتقال وحراك فيزيقي للإنسان، وإنما هي فعل ثقافي تعددي الروافد والمسارات والتجارب، يؤثر في حيوات الأفراد وبنيات المجتمعات، وفي حركة التاريخ الإنساني العام.
وذلكم ما أكده عبد المالك الصياد، في تجديده الرؤيوي لواقعة الهجرة، مؤكدا بأنها لا تنحد فقط وحصريا عند "قوة العمل" ولكنها فعل اجتماعي في عموميته وترابطه البنيوي مع الشروط التاريخية للاستعمار والتفاوتات القائمة بين البلدان المصدرة والمستقبلة، ما يوجب النظر إليها كتجربة حياتية تتأسس على الغربة والمعاناة والتهميش وعُسر الإدماج والاندماج.
تؤشر الهجرة دوما على نوع من الحراك الاجتماعي داخل المجال، والذي يفترض انتقالا اجتماعيا من فضاء لآخر، ومن ثقافة لأخرى، مما يعني أن الهجرة في مطلق الأحوال تنتج ظواهر وحالات مجتمعية أخرى، بحكم انطوائها على السبب والنتيجة في نفس الآن، فهي نتيجة منطقية لتضافر عوامل متعددة، وسبب طبيعي لانبناء وخلق ظواهر أخرى.
وفقا لهذا الفهم، فالسيول البشرية المندلقة من الأرياف نحو المدن أو نحو الخارج في شكل هجرات موسمية أو دائمة أو هجرات شرعية وغير شرعية، لا تكون بمحض الصدفة، بل هي نتيجة لأسباب عدة يساهم في إنتاجها الواقع المجتمعي العام.
ويمكن في هذا المستوى التمييز بين أوجه مختلفة لهذه الأسباب، فهناك العوامل الإيكولوجية أو السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية أيضا. والتي تتوزع جميعها بين عوامل الجذب التي تتصل ببلدان الاستقبال، وعوامل الطرد التي تتعلق بالدول المصدرة للمهاجرين.
لا بأس أن نذكر أن الكثير من البلدان العربية تغيرت وستتغير أبنيتها وأنساقها الثقافية والسياسية بسبب الهجرة والمهاجرين، ويفترض فيها أن تكون مستعدة للقبول بهذا المستجد، فالمهاجر الإفريقي مثلا، والذي كان يعتبر المغرب قبلا كبلد عبور، وأمام سياسة الستار الحديدي الذي نهجها الاتحاد الأوروبي لمنع الهجرة السرية، بات يعتبره كبلد إقامة واستقرار، وهو ما يضع المغرب وغيره من الدول المغاربية أمام تحديات جديدة، لإدماج هذه الجاليات المقيمة بأراضيها، والتي تحمل ثقافات وديانات وعادات مغايرة، ما يوجب إعادة تشكيل المنظومات التربوية والاجتماعية لتقبل باختلافهم وتضمن لهم حق العبادة والتعليم وكل ممكنات استعمال المجال العام.
فماذا أعددنا لهؤلاء المهاجرين من حقوق اقتصادية وسياسية وثقافية؟ وكيف نؤمن لأبنائهم تعليما دائما يراعي خصوصياتهم الدينية والعرقية والهوياتية؟ وكيف سنضمن لهم الحق في ممارسة شعائرهم الدينية؟ وفي ممارسة حقهم في الانتخاب والمشاركة السياسية؟ إنها ذات الأسئلة التي كانت تتردد في أوروبا وأمريكا، باتت اليوم تطرح بقوة في المشهد العربي، وإن كان التعامل معها يتم باحتشام كبير، خصوصا في الدول الخليجية والدول المغاربية، التي تعرف اليوم ديناميات هجروية كبرى، فما العمل؟
يمكن القول بأن الهجرة في الدول العربية، ستكون مشكلا أو فرصة، تبعا للتدبير السياسي الذي ستُقابل به.
إذ ستكون مشكلا عويصا في التعاطي مع اختلاف الهويات والأديان والثقافات الوافدة، إذا لم يتم الاستعداد، بشكل مبكر وجيد، لمتطلبات إدماج المهاجرين. وبمقابل ذلك كله، يمكن للهجرة في ذات البلدان، أن تصير فرصة استثنائية للتغيير والبناء الحضاري، وذلك في حال تبني سياسات عمومية مندمجة في مجال الهجرة، تنتصر بالضرورة لثقافة حقوق الإنسان، وتقر بالحق في الاختلاف والعيش المشترك.
وما على الدول العربية إلا الإفادة من الدرسين الأوروبي والأمريكي، حتى لا تتكرر مآسي "الغيتوهات الهجروية" وما يتحدر عنها من "سلالات" التطرف والعنف المضاد وسوء الاندماج الاجتماعي، ما يجعل من المهاجرين المهمشين، عبئا ثقيلا تنوء به أقوى الاقتصادات وأعتى أنظمة الحماية الاجتماعية.
إن العالم العربي مقبل على تحولات كبرى، في الأنساق والبنيات، وبسبب عوامل متعددة، كثيرا ما لا يتم إيلاء الأهمية فيها للديناميات الهجروية، فما أحدثته العمالة الآسيوية في دول الخليج من تغيير على مستوى العادات الغذائية وأنماط التربية وأشكال التواصل الاجتماعي وتحولات القيم، خير دليل على ما تفعله الهجرة في مستوى تحفيز عناصر التغير الاجتماعي.
ولهذا يمكن القول بأن ما يشهده العالم العربي اليوم من هجرات وهجرات مضادة، وبصيغ متعددة، تتوزع بين النزوح والهجرة واللجوء والتسلل ونظام الكفيل واستراتيجيات العبور أو الإقامة، سيغير الكثير من القيم والقوانين والسياسات، وسيفرض على صانع القرار عاجلا أم آجلا، أن يغير من نظرته للهجرة والمهاجرين.
المؤكد أن التعاطي مع الهجرة كمسألة أمنية أو كملف انتخابي سياسي، فيه الكثير من العسف والاختزال، تماما كما هو الأمر بالنسبة لتمثلها كمشكلة لا غير، والحال أن الهجرة، وباعتبارها سيرورة اجتماعية مركبة وكلية، فإنها تُعد إمكانا لبناء المشترك الإنساني وإصلاح المسار العولمي، الذي تَسَيَّدَ فيه الاقتصاد ضدا على مجال الأفكار والقيم.
فالمجتمعات العربية، التي باتت تختبر الهجرة، وتعاني من تداعيات سوء تدبيرها، ليس أمامها اليوم إلا الاقتناع بضرورة تغيير أنظمة وسياسات الهجرة في اتجاه المزيد من الأنسنة والإنصاف، فالمهاجر هو الذي يكتب تاريخ الغد، سلبا أو إيجابا، حسبما يستهدفه اليوم من برامج إدماجية أو ممارسات إقصائية. وبالطبع فما على القائمين على أمورنا إلا الاختيار والاقتناع بأن الهجرة فرصة تجاوز وبناء. ولا بأس أن نشير ختاما بأن الهجرة ستنجح فيما أخفق فيه الربيع العربي، وإن مستقبلا بطعم الهجرة، لناظره لقريب.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.