وتعد هذه الخطوة جريئة مقارنة بدول الجوار باستثناء الكويت التي كانت سباقة إلى تأسيس مجلس للشورى عام 1921. كما تعتبر أيضاً تكميلاً تدريجياً لمسلسل مأسسة نظام الحكم وترسيخ بناء دولة القانون القائمة على مبدأ إشراك المواطن في إدارة الشأن العام وتدبيره، إذ عمدت قطر بداية إلى تنظيم أول انتخابات بلدية عن طريق الاقتراع المباشر في 8 مارس/آذار 1999 وإعداد مشروع للدستور جرى الاستفتاء عليه في أبريل/نيسان 2003.
يتبارى في هذه الانتخابات 294 مرشحاً منهم 29 امرأة، يتنافسون جميعهم على 30 مقعداً. كما تشهد الحملة الانتخابية تنافساً ملحوظاً بين المرشحين الذين وظفوا، إلى جانب وسائل الدعاية التقليدية الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي لإقناع الناخبين والظفر بأصواتهم. وقنن قانون الانتخابات استعمال سلطة المال في هذه الحملات الانتخابية بحيث منع التمويل الأجنبي، ولم يسمح بتجاوز الحد الأقصى للإنفاق على الحملات الانتخابية مبلغ مليوني ريال قطري، أي ما يعادل نحو 550 ألف دولار أمريكي.
وتشكل النقاشات الدائرة في أوساط الناخبين القطريين، عبر الحملات الانتخابية أو على مساحات الفضاء الأزرق، مرحلة بوح جماعي بما أصبح عليه الوعي الشبابي في مواجهة تراكمات القبلية الضيقة وجدية سعيه لفرض رؤى المواطنة الكاملة وتطلعاته إلى بناء الدولة الحديثة. ولا شك أن هذا التطور في الطروحات المجتمعية يعد من إفرازات مستوى التعليم والتمدرس وخلاصة للتطور الذي لحق التركيبة السكانية القطرية خلال العشرين سنة الماضية.
بين الرؤية والممارسة
أثبتت التجارب الديمقراطية عبر العالم أن الطريق المتدرج هو أسلم الطرق لبناء المجتمعات الديمقراطية.
فالديمقراطية ممارسة قبل أن تكون شعارات موسمية. من هنا كان بدهياً أن تتبلور الرؤية المتروية في قطر، والممارسة اليومية لما بعد تنظيم أول انتخابات بلدية قبل اثنتين وعشرين سنة، لتسمح بتجلي إرادة وطنية عمقت مستوى التجربة وطورته.
وككل التجارب التشريعية في العالم، لا شك أن البدايات قد تأتي متعثرة وقد تنتابها نواقص ولكنها تستقيم في النهاية لا محالة مع تجذر الممارسة والسعي المستمر للتطور.
ولا أغالي إن سجلت بعين مراقب يتابع المشهد السياسي القطري منذ ما ينيف عن خمسة وعشرين عاماً، رغبة قطر في المضي قدماً إلى تحديث أسلوب الحكم وأدواته وتعزيز مشاركة المواطن في صنع القرار، وتوسيع القاعدة الانتخابية حتى يكون مجلس الشورى الممثل الحقيقي لإرادة الناخبين.
لربما خالفني كثيرون الرأي حيال هذا المعطى من منطلق أن الإجراءات التنظيمية لهذه الانتخابات التشريعية الأولى جاءت مجحفة في حق القطريين المجنسين واستبعدتهم من المشاركة. إذ نصت الإجراءات التنظيمية -بالمكشوف- بالأحقية فقط لأحفاد القطريين المواطنين منذ عام 1930 بالتصويت والترشح، مما أثار جدلاً واسعاً قسَّم المستهدفين بين معارض ومؤيد.
وبرزت خلال الأسابيع الماضية حسابات مشبوهة أو حديثة النشأة على تويتر سعت لتحويل النقاش حول انتخابات مجلس الشورى إلى بلبلة أظهرت تورط جهات أجنبية فيها.
ووفق قانون تنظيم الانتخابات المثير للجدل وجد أفراد قبيلة آل مرة أنفسهم خارج اللعبة، بل كانوا المستهدفين الأساسيين من الإقصاء من المشاركة في الانتخابات بحجة حملهم لجنسيتين اثنتين وعدم خضوعهم لشروط القانون المنظم للانتخابات.
وهذه مسألة تحتمل النقاش وتتسع لتبريرات مختلفة بعد أن لفتت الأنظار وأسالت مداداً كثيراً في الجانبين، المعارض والمؤيد. كما وجدت هذه القضية دعماً من أبناء آل مرّة الذين يتوزعون في دول الخليج العربي، في الإمارات والكويت والبحرين وبشكل أساسي في قطر والسعودية. وأعاد إبعاد آل مرة عن الانتخابات إلى الأذهان أزمة عام 1996 التي تفجرت بسبب اتهام السلطات القطرية أفراد القبيلة بالتعاون مع السعودية والإمارات والبحرين في محاولة انقلابية هدفت إلى استعادة الأمير الراحل خليفة بن حمد آل ثاني للسلطة.
وهذه الرواسب كانت حاضرة وتمظهرت بشكل غير معلن في احتجاجات آل المرة على قانون الانتخابات، لكن مرة أخرى حكم العقلاء لدى الفريقين بالتبصر والحكمة ونجحوا في نزع فتيل أزمة كادت تهدد بإفلاس العرس الانتخابي.
ويعلق نور الدين بوشكوج الأمين العام للاتحاد البرلماني سابقاً على هذه المسألة بالقول: "الأنظمة الانتخابية ليست مقدسة وليست نصاً منزلاً بل يجوز تعديله ومراجعته. وهو من صلاحيات المجلس المنتخب القادم الذي من مهامه البحث عن مكامن الخلل -إن وجدت- لتصحيحها".
من هذا المنظور يحضرني مثال لبعض الإجراءات التنظيمية الانتخابية التي كانت عبر التاريخ مجحفة وانتهت، أو هي في طريقها إلى زوال. فقد ارتبط حق التصويت منذ فجر الديمقراطية بملكية العقارات. ولما كانت النساء لا تمتلك الأرض في الماضي فقد جردن من هذا الحق. وتعتبر سويسرا آخر دولة منحت حق التصويت والمشاركة للنساء قبل خمسين عاماً. أما في الكويت التي عرفت أول تجربة ديمقراطية بالمنطقة فتنص المادة الأولى من قانون الانتخابات على التالي: "لكل كويتي بالغ من العمر إحدى وعشرين سنة ميلادية كاملة حق الانتخاب، ويستثنى من ذلك المتجنس الذي لم تمضِ على تجنُّسه عشرون سنة ميلادية وفقاً لحكم المادة 6 من المرسوم الأميري رقم 15 لسنة 1959 بقانون الجنسية الكويتية".
بالعودة إلى رهانات قطر الآنية والمستقبلية استطاعت القيادة أن تنزع فتيل أزمة ما ترتب على إجراءات شروط قانون الانتخابات انطلاقاً من قناعتها بمبدأ فقهي دستوري يؤكد أن القوانين تحتاج دوماً إلى التعديل والمراجعة حسب الظروف السياسية والاجتماعية لحظة تطبيقها.
كما وفرت الدولة كل ضمانات الطعن للمستثنين من الترشح عبر آليات التظلم. وهذه بادرة استحسنها المراقبون، كان ظاهرها استعداداً للحوار وتقليب للموضوع بنية إيجاد مخرج مقبول، عملاً بالقول المأثور: "ما لا يدرك كله فلا يترك جله!".
انطلاقاً من ذلك يتوقع العارفون أن يسدل الستار على هذا الخلاف الانتخابي بإشراك بعض رموز المحتجين على قانون الانتخابات في مجلس الشورى المقبل من خلال التعيين المباشر، في انتظار أن يعكف البرلمانيون بمستقبل قريب على إصلاح الترسانة التشريعية بما يخدم التطلعات ويدفع بالسعي القطري نحو الديمقراطية، تكريساً لرغبة أمير قطر في إشراك رعاياه بصنع القرار.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.