جاء هذا الإعلان ليفتح المجال لعودة الدوحة من جديد للملف السوري، وذلك بعد انكفاء قطر عن الملف في السنوات الماضية.
فعلى الرغم من أنّ قطر كانت أحد أهمّ اللاعبين في الملف السوري منذ انطلاق الثورة السورية، خاصة في سياق دعمها الكبير للمعارضة السورية سياسياً ومالياً، إلا أنّ الدور القطري انحسر بشكلٍ كبيرٍ منذ عام 2016. حيث ساهم عاملان رئيسيّان في انحسار الدور القطري في الملف السوري وقتها.
العامل الأول ارتبط بتداعيات الحصار الذي فرضته المملكة العربية السعودية والإمارات على قطر، والذي دفع الدوحة للانكفاء داخلياً. أما العامل الثاني فقد ارتبط بتغيّر موازين الملف السوري، وإعادة تشكيل المعارضة السياسيّة السوريّة عبر مؤتمر الرياض الذي احتضنته المملكة في نهاية عام 2015، وما تلا ذلك من انطلاق مسار أستانا لاحقاً. فقد ساهم مسار أستانا بتحجيم الدور القطري عبر استثنائها من الآلية الثلاثية التي تبنتها تركيا وإيران وروسيا. ولهذا فإنّ الدور القطري تحجّم في السنوات الأخيرة ليشمل الدعم الإنساني ودوراً سياسياً محدوداً مِن خلال استضافة بعض الشخصيات المعارضة السورية.
إلا أنّ هذا التحرك الأخير مِن خلال تشكيل لجنة التشاور الثلاثية أعاد قطر من جديد إلى الملف السوري من بوابته السياسية. وقد جاء هذا التحرك بمبادرة روسية مباشرة. ويمكن قراءة الدوافع الروسية من هذا التحرك بالسعي أولاً إلى تخفيف الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي تمر بها سوريا، وثانياً استمرار العمل على فك العزلة الدبلوماسية التي يعانيها النظام السوري.
فسوريا تمر، وتحديداً مناطق سيطرة النظام السوري، بأزمةٍ اقتصادية لم يسبق لها مثيل في تاريخ سوريا الحديث. تشير بعض التقديرات إلى أنّ أكثر من 90٪ من السكان سقطوا تحت خط الفقر، ما جعل مخاوف المجاعة تلوح في الأفق.
هذا في الوقت الذي ما زالت الليرة السورية تتراجع بشكل كبير، خاصة مع استمرار الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان، والتي انعكست مباشرة على الاقتصاد السوري. وعلى الجانب الآخر فإنّه من غير المتوقع عودة حقول النفط والغاز في الشّرق السوري إلى سيطرة النظام في أي وقت قريب، خاصة مع استمرار الوجود الأمريكي الداعم لميلشيات PYD في شرق الفرات، ما يعني استمرار حرمان النظام السوري من أهم موارده المالية.
وفي ظلّ هذا التدهور المزمن، يبدو من الواضح أنه لا مخرج للنظام السوري من هذه الأزمة إلا بالحصول على دعمٍ مالي مِن الخارج وتحديداً مِن الدول الخليجية، خاصة في ظل استمرار العقوبات الأوروبية من جهة، وعدم نيّة روسيا تقديم أي دعم مادي ونقدي لسوريا من جهة أخرى.
كما أن محاولات روسيا ومعها النظام السوري للانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار، وإغراء الأوروبيين عبر مؤتمر عودة اللاجئين باءت بالفشل. ولهذا تشعر موسكو، حليفة النظام السوري، بضرورة العمل لإنقاذ الوضع الاقتصادي الذي تعيشه سوريا من خلال طرْق أبواب العواصم الخليجية وتحديداً الدوحة.
وقد بدا واضحاً حضور الملف الاقتصادي في مداولات اللقاء. فقد أكد البيان الختامي للقاء الثلاثي الذي شهدته الدوحة ضرورة العمل على "تخفيف الأزمة الإنسانية التي يتعرض لها الشعب السوري بسبب الظروف السيئة والصعبة التي يمر بها حالياً". فيما أشار وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى أنّ قطر لن تتردد في مساعدة الشعب السوري في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها، خاصة في ظل أزمة كورونا. كما أكد الوزير القطري ضرورة "تسهيل وزيادة المساعدات الإنسانية لجميع السوريين في جميع أنحاء سوريا دون تمييز أو تسييس".
وفي سياق متصل، فإنّ روسيا تدرك أنّ تدفق المساعدات الخليجية لدمشق مرتبط بشكل رئيسي بفك العزلة الدبلوماسية التي يعانيها النظام السوري، وإعادة قبوله في المنظومة العربية، وهو الملف الذي نوقش خلال الاجتماع.
إعادة سوريا لجامعة الدول العربية يحتاج لدعمٍ من الدوحة، التي تمثّل أهم المعارضين لعودة سوريا للجامعة، خاصة في ظل عدم ممانعة دول عربية أخرى على رأسها مصر، ودعم دولٍ أخرى عودةَ دمشق للجامعة وعلى رأسها الجزائر. كما أنّ تبني الدوحة موقفاً إيجابياً فيما يتعلق بتقديم مساعدات إنسانية للنظام السوري، سيسهل الطريق أمام مجلس التعاون الخليجي لاتخاذ خطوات في هذا الصدد.
وبالإضافة إلى تسهيل عودة المساعدات الإنسانية وفكّ العزلة الدبلوماسية عن النظام السوري، فإن التحركات الأخيرة تمنح روسيا فرصة إعطاء انطباع بأنّ الملف السياسي يتحرك وبأنها جادّة في التوصل لحلّ الأزمة السورية، خاصة في ظل وصول اللجنة الدستورية لمسار مسدود.
ومن المنتظر أن تشهد العاصمة التركية أنقرة الاجتماع القادم للثلاثي التركي-القطري-الروسي. ويُتوقع تركيز هذا المسار على آليات إيصال الدعم الإنساني والمادي لسوريا نظاماً ومعارضةً. وفي مقابل تدفق المساعدات عبر النظام السوري، قد تضمّن تركيا توقف روسيا عن الدفع باتجاه استصدار قرار يوقف إيصال المساعدات الدولية والإنسانية عبر معبر باب الهوى، ما قد يُسبّب، في حال اتخاذه، اختناقاً لمناطق سيطرة المعارضة في إدلب. وبالمجمل ستساهم هذه الآليات تدريجياً في إعادة تعويم النظام السوري، أو على الأقل هذا ما تأمله موسكو. فيما يساعد الغياب المستمر للإدارة الأمريكية موسكو على تحقيق أهدافها، حيث يبدو من الواضح أنّ الملف السوري لا يمثّل أحد أولويات السياسة الخارجيّة لإدارة بايدن.
لا تهدف روسيا من خلال إدماج قطر في المداولات حول سوريا إلى تغيير المشهد السياسي أو إعادة ترتيب أوراقه، أو حتى خلق مسار جديد. كما أن موسكو غير معنية بإدخال قطر لمسار أستانا، ما يعزّز من موقف تركيا الضامن للمعارضة في مواجهة إيران وروسيا، فضلاً عن أن المسار أصبح مستهلكاً أصلاً. على العكس من ذلك، تسعى موسكو من خلال توظيف الدور القطري إلى تثبيت الرؤية الروسية للملف السوري من خلال إنعاش النظام السوري اقتصادياً وتعويمه دبلوماسياً.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.