أثارت العمليات العسكرية، التي قامت بها القوات التركية في جبال غارا، ضد قواعد مليشيا PKK، انتباهاً أمريكياً صامتاً، دفع الإدارة الأمريكية الجديدة في عهد جو بايدن، إلى اتخاذ خطوات على الأرض، من شأنها دعم حليفها الذي تصنّفه "حزباً إرهابياً، لاستخدامه على ما يبدو في المستقبل القريب والاستراتيجي، كذراع عسكرية تحقق أهدافاً أمريكية، تتناسب وسياسة الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة.
وقد برّر نيكولاس هاريس، مدير العلاقات الحكومية في "معهد دراسات الحرب وقوة واشنطن"، اختيار "عين ديوار" لإقامة قاعدة عسكرية أمريكية، بأنها "أهم نقطة لدخول التعزيزات إلى شمال شرق سوريا من إقليم كردستان العراقي".
لكن الذي لم يقله هاريس، أن إنشاء القاعدة المذكورة هو إعلان عن منطقة صراع قُوى جديدة في المنطقة، وفي مستقبلها القريب على الأقلّ.
من جهتها، كتبت صحيفة "مخابر" التركية: "على بعد 600 متر من الحدود التركية-السورية، الولايات المتحدة الأمريكية تنشئ قاعدة عسكرية مع ذراع PKK الإرهابي في سوريا، بعد أيام من مجزرته التي قُتل فيها 13 جندياً، وهزّت الوسط التركي".
إن إنشاء الولايات المتحدة قاعدة جديدة في عين ديوار السورية، يثير عدداً من الأسئلة، حول الغاية الأمريكية الحقيقية، من إقامة قاعدة كهذه، في هذا الموقع الاستراتيجي.
إن موقع قرية "عين ديوار" في سوريا، يُعتبر موقعاً متميزاً بالمعنى العسكري، فهو يقع في مثلث الحدود السورية-التركية-العراقية، وبالتالي فهو نقطة تحكُّم استراتيجية، لإدارة كل العمليات العسكرية، التي يمكن أن تتفجر عبر هذه المنطقة.
صحيفة aydinlik التركية، أوضحت من جانبها أن "القاعدة الأمريكية الجديدة ستُسهم في تسهيل تحركات حزب PKK، المصنَّف على لوائح الإرهاب، بين كردستان وسوريا وتركيا".
حديث الصحيفة لم يأتِ من فراغ، لأن الولايات المتحدة أساساً، رغم تصنيفها حزب PKK بأنه "حزب إرهابي"، تستخدمه كأداة عسكرية في إدارة الصراع في سوريا والمنطقة، ولهذا فتصنيفها له لا قيمة له، أمام سلوكها العملي معه، المتمثل بالتحالف مع قوة إرهابية.
الأتراك يدركون خطورة الخطوة الأمريكية، بإقامة قاعدتهم العسكرية الجديدة، ويدركون خطر وضع اليد الأمريكية على هذه المنطقة، المتحكمة بحدود ثلاث دول (العراق وتركيا وسوريا).
خطورة القاعدة الأمريكية الجديدة، عبّر عنها قائد الجيش التركي الثاني السابق الجنرال أديب باشر، إذ وجّه نداءً إلى قيادة بلاده، طالبهم فيه بضرورة التحرك سريعاً، لمواجهة خطر إقامة هذه القاعدة.
الأمريكيون من جهتهم، أبلغوا سكان القرى في تلك المنطقة، أن الهدف من بناء القاعدة هو حمايتهم، من أي اعتداءات، خارجية كانت أو داخلية.
الأمريكيون لم يقولوا لسكان القرى، إن خطوة بناء قاعدة عين ديوار، هي لمنع تركيا من حماية نفسها من هجمات تنظيم PKK، وإن قاعدة عين ديوار ستقدّم الحماية الكافية لانتقال عناصر PKK بحرية بين الدول الثلاث (العراق وسوريا وتركيا)، وهم بهذه الخطوة، يريدون استمرار التوتر في هذه المنطقة الاستراتيجية، خدمة لأهدافٍ لم يعلنوا عنها بعد.
الأهداف الأمريكية من إقامة قاعدة عسكرية في عين ديوار، تتمثل بأهداف قريبة، ومتوسطة، وبعيدة، أما القريبة، فهي تعزيز قوة ميليشيا PKK الإرهابي، من أجل استخدامه مع فرعه السوري PYD، لإدارة الصراع مع الروس وتركيا، وكل القوى غير الحليفة للأمريكيين على الأرض السورية، للوصول إلى الأهداف الأمريكية التي تقف خلف تدخلهم العسكري في هذا البلد.
الهدف الأمريكي المعلن (الحرب على داعش)، هو واجهة سياسية تختفي خلفها حقائق أخرى تمثّل التدخل الأمريكي، فداعش أصلاً لم يصل أو يقترب من هذه المنطقة، منذ محاولته دخول محافظة الحسكة من جهة دير الزور.
الهدف المتوسط من إقامة القاعدة الأمريكية في عين ديوار السورية، هو منع تركيا من سحق الذراع الأمريكية في هذه المنطقة، ونقصد ميليشيا PKK الإرهابية، التي تختبئ في جبال قنديل العراقية، وتشنّ هجماتها من هناك ومن جبل سنجار في العراق.
الأمريكيون يحاولون حماية ذراعهم PKK، لأن هذه الذراع، تشغل تركيا، وتستنزفها عسكرياً واقتصادياً، من أجل منعسيرورةتطور تنميتها، التي تشهد إيقاعاً متزايداً حتى في مرحلة كورونا، إذ بلغت نسبة النمو الاقتصادي 1.2% في هذه المرحلة التي تراجع فيها نشاط العالم الاقتصادي.
الأمريكيون باختصار يريدون إبقاء تركيا "تحت الإبط الأمريكية"، أي منعها من تعزيز قدراتها الاقتصادية واستقلالها السياسي، ونمو قدراتها العلمية والعسكرية، لأنهم يرون في ذلك تهديداً استراتيجياً لبقاء التفوق الأمريكي عالمياً.
الهدف البعيد من إقامة قاعدة عين ديوار في منطقة الجزيرة السورية، يتمثّل في جعل هذه المنطقة احتياطاً جيوسياسياً أمريكياً، إذ إن الأمريكيين وفق سير سياساتهم غير الآمنة مع حلفائهم، يعتقدون أن قاعدة أنجرليك في تركيا، قد تخرج عن دورها ووظيفتها، التي لعبتها في مراحل سابقة في إدارة الصراعات الأمريكية.
الصراعات الأمريكية القادمة مع الصين وبعض دول آسيا، وروسيا، وربما مناطق أخرى في أوروبا، تحتاج إلى قاعدة عسكرية متطورة وثابتة، لا يخضع وجودها لحسابات محلية تؤثر فيها، وهذه الحسابات وجدت في وضع منطقة شمال شرقي سوريا ضالتها، إذ إن القوة المتحكمة على الأرض في هذه المنطقة هي قوةٌ ضعيفة بمفردها (قوات PYD وPKK)، ولا يمكنها الصمود أمام سكان سوريا في حالة خروج الأمريكيين.
إن عامل الضعف هذا، يمنح الأمريكيين قوة الوجود في عين ديوار وشرقي الفرات عموماً، سيما، وأن هذه المنطقة، تؤثر -كما أسلفنا- في دولتين مجاورتين، هما العراق وتركيا، فلا أحد وفق هذه المعادلة، يطالب الأمريكيين بالخروج، باستثناء وجود الدولة السورية المستقلة، التي تقع خارج هيمنة الأسد ونظامه.
إن إقامة قاعدة عين ديوار من قبل الولايات المتحدة تشكّل خطراً على دول المنطقة بأجمعها، فهو تهديدٌ صريح لاستقلال سوريا، وهو أيضاً دعوة غير مباشرة لتقسيمها، من خلال تمكين قوى إرهابية ذات مشروع عابر للوطنية في تنفيذ حلمها على حساب السوريين.
وهو خطر على العراق، لأنه يسمح لقوى إرهابية باختطاف الأكراد وتسخيرهم لحروب ضد شعوب المنطقة، وتحديداً أكراد شمال العراق، الذين يريد حزب PKK، ومن خلفه الأمريكيون، خلق إقليم كردي بهم، يمتدّ من سنجار عبر سوريا إلى جنوب شرقي تركيا.
الخطر الأكبر يمكن أن يكون موجهاً ضد الدولة التركية، ووحدة أراضيها، وسلامة أمنها القومي، وهو هدف تشتغل عليه قوى دولية، لا تريد أن تنمو تركيا، وتأخذ موقعها كقوة إقليمية أو عالمية.
والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو: هل ستتضافر الجهود الإقليمية الرافضة للمشروع الأمريكي/الكردي الانفصالي لمنع قيام قاعدة كهذه، أم إن الأمر متروك لتطورات لم تكن في وارد حساب الولايات المتحدة الأمريكية؟ الانتظار سيّد الموقف؛ فلننتظر... هل ستستطيع الولايات المتحدة تمرير وجود قاعدتها الجديدة، أم أن هذه القاعدة ستأكلها نار الصراعات في هذه المنطقة الحيوية من العالم؟
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.