تُعَدّ العلاقات الصينية-الأمريكية من أهمّ وأكثر العلاقات الدولية تعقُّداً وتشابكاً في القرن الحادي والعشرين، لأسباب كثيرة. اقتصادياً، الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر اقتصاد في العالم والصين هي ثاني أكبر اقتصاد، كما أن بكين أصبحت أكبر شريك تجاري لواشنطن منذ عام 2015. أما سياسياً، فالصين قوة صاعدة على الساحة الدولية وتتشابك مع الولايات المتحدة الأمريكية في العديد من القضايا الإقليمية والدولية تشابكاً لا يمكن تجاوزه لتسوية تلك القضايا.
وقد ظلّت الصين واحدة من أهمّ قضايا حملات الانتخابات الرئاسية الأمريكية منذ عقود، إذ تكون اللغة الحادة تجاه الصين من أدوات مرشَّحي الرئاسة الأمريكية لدغدغة مشاعر الناخب الأمريكي.
لقد كانت العلاقات الأمريكية-الصينية خلال الحرب الباردة في معظم الحالات قائمة على التعاون والمشاركة، غير أن السياسة الخارجية الأمريكية في الوقت الراهن عموماً، وتجاه الصين خصوصاً، تعكس التراجع العامّ في مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، مع إيمان العديد من السياسيين الأمريكيين في الوقت نفسه بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العظمى الوحيدة التي لن تتراجع أبداً.
خلال ولاية الرئيس السابق ترمب سيطرت حالة من عدم اليقين وغياب الثقة على العلاقات الأمريكية-الصينية، إذ كان الاضطراب والتوتر واحتدام التنافس سيد الموقف في علاقات الطرفين لدرجة تخوُّف البعض من أن يترجَم إلى مواجهة عسكرية بسبب السياسات الصارمة التي اتخذتها إدارة ترمب تجاه الصين بشأن العديد من القضايا، ومنها الممارسات التجارية للصين، ورفع الرسوم الجمركية على الواردات الصينية، واتهام الإدارة الأمريكية لها بانتهاك حقوق الملكية الفكرية، وسرقة التكنولوجيا الأمريكية، ووضع مجموعة الاتصالات الصينية "هواوي" على اللائحة السوداء للولايات المتحدة لخطورتها على الأمن القومي الأمريكي ووجود شبهات في التجسس.
وعلى الرغم من خطاب الرئيس جو بايدن الحاد والمحموم ضد حكومة الصين الشعبية، فإنه يمتلك خيارات محدودة في سياسته الخارجية تجاه الصين، ويفتقر إلى سياسة خارجية واضحة المعالم بشأنها، إذ تعدّ سياساته امتداداً لسياسات الرؤساء السابقين، فاللحظة التاريخية الراهنة ليست لحظته، إنه رهينة للانقسامات المحلية القائمة في واشنطن.
ويربط بايدن إعادة بناء البنية التحتية الأمريكية بالتحدي الصيني، ويستحضر مفاهيم الآيديولوجيا واختلاف نظام الحكم مع الصين وتصارع الديمقراطيات والدكتاتوريات، في وقت يبدو فيه العالم أقلّ اهتماماً بالآيديولوجيا وهو يواجه جائحة كونية بكل ما يترتب عليها من تكاليف اقتصادية. ويعزو العديد من المراقبين المواجهة الحالية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين إلى عقلية الحرب الباردة.
بالعودة إلى تايوان، فإن سياسة الإدارة الأمريكية تجاه مسألة تايوان تاريخياً كانت مرتبطة بالصلابة والجمود وذلك بسبب العداء العام تجاه الشيوعيين الصينيين. وبالأخصّ من خلال اعتماد الصين الشعبية في استراتيجيتها وبشكل متزايد على الاتحاد السوفييتي، وفي ظل هذا المناخ السياسي كان هذا السبب من أهم الأسباب التي دعت الإدارة الأمريكية لتعديل سياستها تجاه الصين، خصوصاً بعد إعادة انتخاب أيزنهاور. وما صعّد ذلك بشكل رئيسي الضغوط التي مارسها الحلفاء من الحكومات التي كانت ترغب في تطوير العلاقات التجارية مع الصينيين الشيوعيين، بحيث اضطُرّت الولايات المتحدة إلى قبول قرار من قبل البريطانيين لفتح علاقات تجارية في السلع غير الاستراتيجية مع جمهورية الصين الشعبية.
إن الملف التايواني إحدى أهمّ القضايا الخلافية بين بكين وواشنطن، وذلك بسبب إقدام الأخيرة على نهج نوع جديد من التعاملات مع حكومة تايبيه، وهو ما تفسره بكين بأنها تتضمن انتهاكات جوهرية لمضامين الاتفاق بين البلدين بخصوص مسألة تايوان منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ رأت الصين أن من شأن التصرفات الأمريكية تكريس وضعية الانفصال التايواني باعتباره اعترافاً ضمنياً باستقلال الجزيرة.
"سياسة الصين الواحدة" (One-China policy) هي الاتفاقات الرئيسية في الاجتماع السري الذي جمع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، مع رئيس الوزراء الصيني حينها شو أونالاي، في يوليو 1971، وهو الاجتماع الذي مهد لإقامة تبادل دبلوماسي بين البلدين، وقلّص الوجود العسكري الأمريكي في تايوان، وسمح بأن تحلّ الصين محلّ الأخيرة في مجلس الأمن والأمم المتحدة.
ورغم إدراك الولايات المتحدة الأمريكية لمدى خطورة وحساسية القضية لدى بكين، فإنها كانت حريصة على أن يكون لها وجود مباشر مع تايوان في إطار شراكة اقتصادية وعسكرية يؤطّرها العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.
وكانت الصين دائماً تندّد على لسان مسؤوليها ببيع أسلحة أمريكية لتايبيه وبتزايد وتيرة الزيارات الرسمية لتايوان من جانب مسؤولين سياسيين أجانب. إلا أن واشنطن كانت دائماً تؤكّد أن سلوكها وسياستها الخارجية تجاه تايوان لا تتعارض مع الوضع القائم أو تغيّره، ولا علاقات دبلوماسية بين البلدين رغم وجود علاقات غير رسمية مع الجزيرة، وأنها لا تزال ملتزمةً رعايةَ التفاهمات السابقة بينها وبين الصين في هذا الخصوص.
لا يمكن فصل زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي (82 عاماً) لتايوان عن مرجعية الحكم والسلطة وطبيعة النظام السياسي الأمريكي، فصانع السياسة الخارجية الأمريكية يظلّ هو الرئيس الأمريكي بموجب الدستور الفيدرالي، فهو القائد الأعلى للجيش الأمريكي، ويتولى الدفاع عن وحدة البلاد، ويوقّع المعاهدات، ويعيّن السفراء لدى الدول والمنظمات الدولية. لكن مبدأ الفصل بين السلطات الذي يشكّل الدعامة الأساسية للديمقراطية الأمريكية، يتيح للسلطات الأخرى التحرك على المستوى الخارجي والمساهمة في صنع السياسة الخارجية الأمريكية.
فرئيسة مجلس النواب التي تحتلّ المرتبة الثالثة بعد الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، لها دور مهمّ في صنع القرار الخارجي الأمريكي باعتبارها تمثل الكونغرس، المؤسسة التشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية.
وتجدر الإشارة إلى أن زيارة نانسي بيلوسي لتايوان حظيت بمباركة وتأييد من الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس، هذا في الوقت الذي تَحفَّظ فيه البيت الأبيض والجيش الأمريكي على الزيارة واعتبراها فكرة غير محبذة وغير مستساغة حتى من المقربين من الرئيس الأمريكي في الوقت الحالي، الذي تصاعدت فيه حدة التوتر بين واشنطن وبيكين.
وعلى الرغم من أن الوضع حاليّاً في مضيق تايوان لا يبدو على وشك التحول إلى وضع عسكري خطير، فإن التهديد بحدوث زعزعة فجائية للأوضاع ما زال قائماً. لذا سيعمل الطرفان، ومن مصلحتهم جميعاً، على ضبط النفس وتجنُّب الحل العسكري والصراع المباشر لأن نزاعاً من هذا النوع سيؤدي إلى مواجهة نووية مباشرة بين الصين والولايات المتحدة، وهذا ما يتفاداه كلاهما إلى الآن على الأقل.
والمتتبع للسياسة الصينية يلاحظ أنها تركز جهودها على إلهاء الرأي العام الصيني ودغدغة المشاعر القومية، وذلك في وقت تعيش فيه الصين ركوداً اقتصادياً، كما أن صبر سكانها ينفد بعد أكثر من عامين من القيود الصارمة المرتبطة بسياسة "صفر كوفيد".
تبني الصين سياستها على محورين أساسيين، هما الاقتصاد والقومية، إذ يركز الحزب الشيوعي الصيني على وتر العواطف القومية لصرف الانتباه عن التباطؤ الاقتصادي الذي تعرفه الصين وتغطية الفشل في تجاوز المشكلات الاقتصادية التي تعرفها البلاد، وهنا تكون تايوان هي نقطة التجاذب المحورية في الموضوع.
لا يوجد أي دليل قاطع على وجود نية وشيكة لدى بكين للقيام بتدخل عسكري ضد تايوان، فمن الواضح أن الصين تفضّل الاكتفاء بالتعبئة العسكرية وحشد القوات على مقربة من سواحل تايوان و إصدار التصريحات العدائية، وذلك بهدف تغيير المواقف الدبلوماسية لواشنطن وتايبيه للعودة إلى التفاهم المتبادل بشأن مبدأ "الصين الواحدة"، الذي يفضي في النهاية إلى إعادة التوحيد السلمي للصين مع الجزيرة، فضلاً عن الضغط على واشنطن لعدم تقديم مساعدات عسكرية نوعية لتايوان تراها تهديداً لها.
ردود الفعل الصينية على ما تسميه بكين "الابتزاز السياسي" للصين، سيكون استعراض القوة العسكرية الصينية في مواجهة الولايات المتحدة قبل مؤتمر الحزب الشيوعي الذي يُعقَد في أكتوبر/تشرين الأول 2022، ويُفترض أن ينتخبه لولاية ثالثة أميناً عامّاً للحزب. ومن ناحية أخرى فرضت الصين ما يشبه "عقوبات اقتصادية" على الأسماك والفاكهة المستوردة من الجزيرة، ومنعت تصدير الرمال الطبيعية إليها، وهي تُعتبر عقوبات ذات طابع "رمزي" أكثر منها عقوبات عملية.
ونظراً إلى أن محاولة تغيير الوضع الراهن حالياً قد تكون مكلفة اقتصادية وعسكرية، فإن بكين تفضل الحفاظ عليه، ولكن إذا أعلنت تايوان استقلالها، أو اعترفت الولايات المتحدة بتايوان كدولة ذات سيادة، فإن الكثيرين في البر الرئيسي سينظرون إلى غزو الجزيرة باعتباره حرباً ضرورية.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.