ولهذا عندما انقسم العالم إلى معسكرين كبيرين بقيادة كلٍّ مِن أمريكا والاتحاد السوفياتي توقّع كثيرون الانتهاء بحرب عالمية ثالثة وراح كلٌّ منهما يعدّ لها العُدة. وذلك بالرغم من امتلاك الطرفين القنابل النووية، وإمكان إيصالها إلى عاصمة العدو ومراكزه الأساسية.
ولكن سُرعان ما تبيّن، وبعد جهود مضنية مِن سباق التسلّح أنّ الحرب النووية أخرجت الحرب العالمية الثالثة من نطاق المعقول والإمكان. ذلك لأنّها أصبحت شبه إفناء للبشرية كلّها، فلا معنى لها ولا رابح منها.
وهذا ما حوّل الحرب الحامية إلى الحرب الباردة، مع بقاء سباق التسلّح، بأقصى مداه، وذلك بدايةً، لتأمين الضربة الثانية وبالقوة نفسها، ثم أصبح سباق التسلّح سعياً إلى فرض الاستسلام على العدو من دون اللجوء إلى الحرب. وذلك إذا نجحت إستراتيجية حرب النّجوم التي كان هدفها السيطرة على الصواريخ النووية (الهيدروجينية والنيتروجينية) لدى الخصم، بحيث يفقده إمكان الضربة الثانية. وذلك بتلقّف صواريخه في الطريق.
وهو ما حكم الإستراتيجية الأمريكية في السنوات العشر الأخيرة مِن الحرب الباردة، وكذلك حكم إستراتيجية الاتحاد السوفياتي لمجاراتها في الوصول إلى الهدف نفسه الذي كان وراء حرب النجوم. وهنا وقع الاتحاد السوفياتي بخطأ مسابقة أمريكا في إستراتيجية حرب النّجوم التي أرهقت موازنته.
لأنّ البديل الأفضل كان زيادة أعداد صواريخ الاختراق كلما زادت صواريخ الاعتراض. وهو متوفّر وأقل تكلفة بكثير (إستراتيجية بوتين). أمّا الموازنة المالية الأمريكية فكانت مرتاحة، بسبب الفارق الكبير من حيث الإمكانات المالية والاقتصادية التي كانت تتمتع بها طوال الوقت. وهذا يعود تاريخياً وحاضراً، لنهبها العالم، وقدراتها التقنية والإنتاجية والتجارية والاقتصادية عموماً.
أمّا الاتحاد السوفياتي فقد عانى مرحلة الحرب الأهلية المدمرة ما بين 1917-1924، ثم حرباً عالمية ثانية دمرته تدميراً. وقد سبقها حصار خانق من 1924-1941. فالهوّة بين المعسكر الغربي والمعسكر الاشتراكي كانت هائلةً جداً مِن الناحية الاقتصادية والمالية والانتاجية والعلمية والتقنية. ولم يكن الاتحاد السوفياتي نداً إلاّ بالقدرات العسكرية التي حالت دون حسم الصراع معه من خلال الحرب. وهو القانون الذي منعت جريانه حالةُ حرب الإبادة المشتركة والمتبادلة.
فالحرب الباردة كانت حرباً بكلّ معنى الكلمة، بالنسبة لكارل فون كلاوزفيتش واضع أُسُس "علم الحرب" الحديث. لأنّ سباق التسلّح في مرحلة هدنة، أو لا حرب حامية، هو إعدادٌ للحرب الحامية الحتمية.
لذلك فإنّ العلاقة ما بين الدول الكبرى، ولا سيّما ما بين أمريكا وكلٍّ مِن روسيا والصّين هي علاقة حرب. وذلك ما دام سباق التسلّح جارياً على قدم وساق لا سيّما في أبعاده التقنية التي راحت بأسلحتها الجديدة تفوق كلّ تصوّر. هذا وما زال سباق التسلّح متصاعداً، بما يفوق بدرجات أهدافَ حرب النّجوم أو المستويات التي وصلتها الحرب الباردة في الثمانينات.
ولكن أيضاً، ما زال القانون الذي يحُول دون الانتقال إلى الحرب الكونيّة الشاملة والذي عرفته مرحلة الحرب الباردة الأمريكية-السوفياتية، قائماً وفاعلاً، حرب الإبادة المشتركة إنْ لم يكن إبادة العالم في الآن نفسه.
ولهذا فإنّ احتدام الصّراع الأمريكي مع كلٍّ مِن روسيا والصّين أخذ يُعيد الحديث عن اندلاع حرب باردة لا سيّما ما بين أمريكا والصين. لأنّ الصين هي المنافس الاقتصادي والتقني الذي يهدد أمريكا بالنزول من موقع الرقم واحد عالمياً.
إنّ اختيار إستراتيجية الحرب الباردة كان خياراً أمريكياً، فضلاً عن كونه تعبيراً عن معادلة واقع عالمي قائم. وقد ثبت واقعياً مع انهيار المعسكر الاشتراكي من دون حرب حامية أو استسلام، أنّ إستراتيجية الحرب الباردة كانت في مصلحة أمريكا، بسبب تفوّقها الاقتصادي والتقني والمالي، كما النفوذ السياسي نسبياً. وذلك في ظل معادلة توازن القوى العسكرية في مجال الحرب العالمية الشاملة.
إنّ انهيار الاتحاد السوفياتي يجب ألاّ يُعزى إلى السبب الاقتصادي كتفسيرٍ تبسيطي، إذ يجب أن يُقرأ بعمق. فعلى سبيل المثال مرّ في العشرينات والثلاثينات، وفي أثناء الحرب الثانية، بظروف اقتصادية أصعب بكثير، وبما لا يقاس، بصعوباتها الاقتصادية في أواخر الثمانينات. لذلك فإنّ ما كان وراء الانهيار أسباب أخرى بالتأكيد.
ولكن ما يهم موضوع الحرب الباردة الجديدة اليوم هو تأثير التفوق الصيني (أو هو في الطريق) على أمريكا، من ناحية التطور الاقتصادي والتقني وحتى المالي. الأمر الذي لا يسمح لأمريكا بخيار الحرب الباردة كما كان الحال مع الاتحاد السوفياتي مريحاً وفي مصلحتها. بل وفي الأغلب، سيكون الخيار صينياً للأسباب نفسها.
ولهذا ستلجأ أمريكا إلى صوْغ قوانين (أساليب في إدارة الصراع) غير تلك التي صاغتها في مرحلة الحرب الباردة بين العملاقين الأمريكي والسوفياتي. وبالمناسبة إنّ سِمات الحرب الباردة السابقة لم تقتصر على سباق التسلّح والمنافسة الاقتصادية والتقنية (متعددة الأوجه)، ولم تقتصر على توفّر إمكانات مالية أمريكية متفوقة فحسب، إنّما كانت هناك حروب بالوكالة، وطعنات في الظهر وضربات تحت الحزام وتدخُّل في الشؤون الداخلية، وكان ثمة حروب سياسية إعلامية أيديولوجية ومخابراتية، وهذه بدورها، ستأخذ مداها الجديد في المرحلة الراهنة. وقد تتصاعد من جانب أمريكا، لا سيّما العقوبات حتى تمنع بلوغ الصين من التفوق المالي والاقتصادي والتقني.
بكلمات أخرى، إنّ أمريكا والغرب سيخسران الحرب الباردة إذا ما جرت كما جرت سابقتها. ولهذا ستعمد أمريكا إلى تغيير أُسس اللعبة. مما قد يؤدي إلى تسمية الصراع الدولي الراهن بغير اسم "الحرب الباردة" ليأخذ اسماً أكثر تطابقاً مع واقع حاله بعد تبلوره أكثر في قادم الأيام.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.