جلسة افتتاح البرلمان العراقي الجديد.. عنوان جديد للأزمة السياسية في العراق!
لم تكن الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي الجديد في 9 يناير/كانون الثاني 2022، سوى حلقة جديدة من مسلسل التوتر والاحتقان بين أطراف العملية السياسية في العراق، الذي بدأ التصاعد منذ الإعلان الأوّليّ لنتائج الانتخابات البرلمانية النيابية الأخيرة.
احتجاجات العراق (Reuters)

تخللت الجلسة الافتتاحية مواقف كرّسَت عمق الأزمة بين التيار الصدري وحلفائه (المفترَضين) من القوى السياسية السنية والكردية من جهة، وقوى الإطار التنسيقي الشيعي وحلفائه من السُّنة والكرد من جهة أخرى.

ففي تلك الجلسة، وعلى الرغم من انسحاب نواب قوى الإطار التنسيقي وحلفائه من الجلسة، تَمكَّن الصدريون وحلفاؤهم (نواب قائمتي "عزم" و"تقدم" الموحدتين من العرب السنة، ونواب الحزب الديمقراطي الكردستاني)، من حشد الأصوات المطلوبة لفوز محمد الحلبوسي من "عزم+تقدم" بمقعد رئيس البرلمان، ولفوز حاكم الزاملي من القائمة الصدرية بمنصب النائب الأول لرئيس البرلمان، ولفوز شاخوان عبد الله من الحزب الديمقراطي الكردستاني بمنصب النائب الثاني لرئيس البرلمان.

لكن ما انتهت الجلسة حتى طعنت قوى الإطار التنسيقي الشيعي (إعلامياً) على شرعية مخرجاتها، ومن ثم تَقدَّم النائب باسم خشان (نائب مستقلّ ولكنه معروف بوصفه خصماً للصدريين) بدعوة للطعن على دستورية جلسة انتخاب هيئة رئاسة البرلمان لدى المحكمة الاتحادية العليا، بدعوى أن تلك الجلسة شابتها مخالفات دستورية وقانونية. قرَّرَت المحكمة الاتحادية وقف قرارات الجلسة الافتتاحية ومخرجاتها إلى حين النظر في هذه الدعوى وإصدار القرار النهائي بشأنها.

من المعروف أن المحكمة الاتحادية العليا في العراق، ومثيلاتها من المحاكم الدستورية في باقي البلدان، غالباً ما تأخذ فترة زمنية قبل إصدار قراراتها النهائية، بهدف إعطاء فرصة لإجراء المزيد من التفاهمات والمفاوضات بين الأطراف السياسية المتخاصمة لديها.

مقدمات الأزمة

أحدثت نتائج الانتخابات الأخيرة انقساماً حادّاً في الساحة السياسية في العراق، بسبب مفاجآتها الصادمة. القوى السياسية الشيعية التقليدية التي لطالما تحكمت بالعملية السياسية في عراق ما بعد 2003، مُنِيَت بخسارة كبيرة مقارنة بالانتخابات السابقة، كقائمة "الفتح" التي يتزعمها هادي العامري، والتي تضمّ معظم القوى السياسية-المسلحة المدعومة من إيران والتي حصلت في الانتخابات السابقة عام 2018 على 48 مقعداً، من أصل 329 مقعداً تمثّل العدد الكلّيّ لمقاعد البرلمان العراقي، ولم تحصل في الانتخابات الأخيرة إلا على 17 مقعداً فقط.

لم تكن مفاجآت نتائج الانتخابات الأخيرة صادمة لكل القوى السياسية الشيعية، بل كانت سارَّة للحركة الصدرية التي يتزعمها رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، التي تختلف في مواقفها ورؤيتها السياسية وفي طبيعة علاقتها مع إيران عن جميع القوى السياسية الشيعية، إذ حصلت القائمة الصدرية على المركز الأول في الانتخابات الأخيرة وحصدت 73 مقعداً، بفارق كبير عن أقرب منافسيه من القوائم الشيعية، قائمة "دولة القانون" التي حصلت على 33 مقعداً، والتي يتزعمها الغريم التقليدي للصدريين، رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.

بعد الإعلان الأولي عن نتائج الانتخابات الأخيرة تَفجَّرَت حملات الرفض والتشكيك بتلك النتائج من القوى السياسية الشيعية الخاسرة، تجمعت تلك القوى في تشكيل سياسي أُطلقَ عليه "الإطار التنسيقي الشيعي".

بدأت حملات الرفض بتنظيم اعتصامات واحتجاجات لجمهور قوى الإطار التنسيقي الشيعي أمام "المنطقة الخضراء" التي تضمّ مقرات الحكومة، وصولاً إلى تقديم دعاوى طعن على نتائج الانتخابات للمحكمة الاتحادية العليا. في المقابل كان التيار الصدري يقود حملات دعم للمفوضية العليا للانتخابات وإشادة بنزاهة أدائها وإجراءاتها وبسلامة نتائج الانتخابات.

في ظلّ وجود معادلة الردع وتوازن القوة بين الفصائل المسلحة المنضوية في الإطار التنسيقي الشيعي، والتيار الصدري الذي يمتلك فصيل "سرايا السلام" الذي تعادل قوته المسلحة و"العقَدِيَّة" قوة فصائل الإطار التنسيقي الشيعي، لم تفلح تحركات وضغوط الإطار التنسيقي الشيعي في إحداث تغيير في نتائج الانتخابات، وصدّقَت المحكمة الاتحادية العليا على النتائج في 27 ديسمبر/كانون الأول 2021.

جوهر الأزمة وأبعادها المختلفة

إذا كان ظاهر هذه الأزمة هو صراعاً بين قوى سياسية حول نتائج الانتخابات وتداعياتها، فإن جوهر الأزمة هو صراع بين مشروعين سياسيين:

المشروع الأول يتبناه التيار الصدري، الذي ينادي بتشكيل حكومة أغلبية سياسية من القوائم الفائزة بالمراتب الأولى، بشرط أن تكون حكومة أغلبية (وطنية) تضمن وجود قوى سياسية من جميع مكونات الشعب العراقي.

الصدريون يرون ضرورة تغيير النهج المعتمد في تشكيل الحكومات السابقة، الذي يرتكز على "محاصصة" الوزارات بين جميع القوى السياسية التي تفوز بمقاعد في الانتخابات، حسب أوزانها من المقاعد النيابية، تحت ذريعة ضمان تمثيل جميع مكونات الشعب العراقي في التشكيلة الحكومية.

الصدريون يرون أن نهج المحاصصة هو السبب الرئيس في فشل الحكومات السابقة في تلبية مطالب وتطلعات الشعب العراقي، لأنه يصعب تحديد الجهة السياسية التي تتمّ مساءلتها ومحاسبتها على تقصير الحكومة، كذلك فإن ذلك النهج لا ينتج معارضة برلمانية حقيقية وفعالة، فكل الكتل النيابية ممثَّلة في الحكومة، وهي تنتقد الحكومة في جلسات البرلمان في الوقت ذاته.

المشروع الثاني ضمن هذا الصراع هو مشروع الحكومة التوافقية، الذي تتبناه قوى الإطار التنسيقي الشيعي، التي ترى أن في العملية السياسية في العراق قوى سياسية "أساسية"، سيخلق استبعادها عن تشكيلة الحكومة المقبلة حالة من الخلل وعدم الاستقرار السياسي، قد تتطور إلى حالة من عدم الاستقرار الأمني، بخاصة إذا كانت القوى المستبعدة من الحكومة تمتلك فصائل مسلحة منخرطة في الشؤون الأمنية في البلد.

بإمكان الصدريين إبداء بعض المرونة في القبول بمشاركة "رمزية" لبعض قوى الإطار التنسيقي في الحكومة المقبلة لمنع البلاد من الانزلاق نحو الصدام

من جهة أخرى، الصدريون يرون أنه آن الأوان لوقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للعراق، بخاصة التدخلات الإيرانية. الصدريون لا يطرحون أنفسهم كأعداء لإيران، وهم لديهم علاقات جيدة بإيران، ولكنهم يرون ضرورة الاستجابة للتغيير في الرأي العامّ العراقي، الذي أصبح منذ احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019 يرفع شعار "جيراننا وحلفاؤنا يجب أن يكونوا أصدقاءنا لا أسيادنا"، فيما معظم قوى الإطار التنسيقي الشيعي ترى وجوب الحفاظ على العلاقة الصميمة مع إيران السائدة منذ 2003، بغضّ النظر عن انعكاساتها على الأوضاع في العراق.

مآلات الأزمة ومستقبل العملية السياسية

في اعتقادنا أنه ما زال هنالك مفاتيح لحلحلة هذه الأزمة ومنعها من الذهاب إلى لحظة الصدام بين المشروعين، تتمثل بإمكان إبداء الصدريين بعض المرونة في القبول بمشاركة "رمزية" لبعض قوى الإطار التنسيقي في الحكومة المقبلة، فضلاً عن احتمال قيام إيران بمنع قوى الإطار التنسيقي من توتير الأوضاع السياسية والأمنية، ودفعهم إلى التفاهم مع الصدريين، إذ إن إيران حريصة أيضاً على عدم فقدان ثقة وودّ الصدريين.

المرجعية الدينية الشيعية العليا في النجف، رغم محاولاتها للنأي عن المشاحنات السياسية في الآونة الأخيرة، فإن لديها رأياً ناقداً لحكومات المحاصصة التقليدية معروف منذ سنوات، وربما هي أقرب إلى مشروع حكومة الأغلبية الوطنية، بقياس مواقفها السابقة من العملية السياسية، وهذا عامل مهمّ يمكن إضافته إلى مفاتيح حل الأزمة، بحالة إذا ما شعر الصدريون بوجود دعم غير معلن من المرجعية العليا لمواقفهم، وإذا ما وجدت قوى الإطار التنسيقي الشيعي في الوقت نفسه أنها مضطرة إلى تنفيذ رغبة المرجعية.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي