ومن ذلك كانت سلسلة المقترحات لعدد من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين لسحب العضوية الدائمة في مجلس الأمن (وبالتالي حقّ النقض) من روسيا الاتحادية، عقاباً لها على سلوكها العدواني والمنتهك للقانون الدولي كما وصفوه، معتبرين وجودها تهديداً لمصداقية المجلس.
لا يخلو هذا التصريح من الطرفة، أولاً لأن المقترح أتى من سياسيين جمهوريين بعضهم تَحفَّظ على سحب القوات الأمريكية من البلدان التي احتلّتها أو تدخلت فيها عسكرياً، وثانياً لأنهم افترضوا أن احترام القانون الدولي هو معيار إعطاء الدول الخمس العضوية الدائمة وحقّ النقض في مجلس الأمن، وثالثاً لأن هذا مجرد رياضة عقلية لا أكثر ضمن المعطيات الحالية.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُطرح فيها الموضوع سواء إعلامياً أو حتى سياسياً، فسبق أن رفضت الدول العظمى، وتحديداً الولايات المتحدة، الاعتراف بالحكومة الصينية في بكين التي كان يقودها ماو تسي تونغ آنذاك (التي تحكم "الأرض الأم" للصين كافة) وأصرت على الاعتراف بالحكومة الموجودة في جزيرة تايوان، وبالتالي كانت الأخيرة هي صاحبة المقعد في مجلس الأمن حتى قيام الرئيس الأمريكي نيكسون بالاعتراف بحكومة بكين.
وحصل بعدها جدل حول أحقية روسيا بوراثة مقعد الاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن، إذ إن الاتحاد تفكك ونشأت عنه عدة دول، منها روسيا الاتحادية (وهذا ما تطرحه أوكرانيا حالياً). وكان النقاش حول ما إذا كانت روسيا الاتحادية دولة وريثة ومنبثقة عن الاتحاد السوفييتي (successor state) أم إنها استمرار طبيعي له (continuing state) وبالتالي تحتفظ بامتيازاته، وأصرّ المسؤولون الروس على الخيار الثاني، وهو ما جرى.
ضرورة الإصلاح
لعله من المعلوم من الأمم المتحدة بالضرورة أن "حق النقض" (الفيتو) هو أحد أبرز أسباب تعطيل مجلس الأمن (المخول إليه حفظ السلم والأمن الدوليين) وزيادة الفوضى في العالم. فمن يملك حق النقض، لا يُلقِ بالاً لردة فعل المجلس، فحق النقض بيده، كحال أمريكا في العراق وروسيا في القرم وسوريا مثلاً. ومن لا يملك هذا الحق، يسعَ تلقائياً للعمل خارج المنظومة، إما تمرُّداً كلياً (ككوريا الشمالية) وإما مستنداً إلى تحالف مع إحدى قوى النقض في المجلس، مثل سوريا وإسرائيل. وبالتالي أصبح المجلس مجرد ديوانية لتبادل التهديدات وتناول أطراف الحديث لا أكثر.
وتَجلَّى فشل المجلس في حالات عديدة في السنين الماضية، مثل أخذ موقف حازم تجاه إسرائيل، أو سوريا، أو الصين، أو مؤخراً في الحالة الأوكرانية.
وفور نيل غالبية دول العالم الثالث الاستقلال عن المستعمر الأوروبي بعد أن أنهكته الحرب العالمية الثانية، بدأت مطالب إصلاح منظومة الأمم المتحدة، وتحديداً مجلسه الأعلى، مجلس الأمن. وتنوعت الأسس التي استندت إليها المطالبات، بين أسس مبدئية وعملياتية (مرتبطة بالفعالية) وأخرى واقعية.
فمبدئياً، كان يُفترض أن تكون منظمة الأمم المتحدة انعكاساً للإجماع الدولي ومساحة لتجسيد المساواة بين الدول، إلا أن البنية التي صنعها المنتصر في الحرب كانت مفصَّلة على مقاسه وكانت على المبدأ الأورويلي أن بعض الدول "متساوية أكثر من غيرها".
ومن أبرز انعكاسات ذلك علاقة المجلس المختلة مع الجمعية العامّة، التي يراها الجميع أكثر ديمقراطية. وأما من ناحية الفعالية، فقد شلّ حق النقض حركة المجلس وجعله أقرب للديوانية منه لمجلس. وواقعياً، فلم يعد لمنطق أفضلية المنتصر في الحرب العالمية الثانية أساس، ففرنسا وبريطانيا تتراجعان على الصُّعُد كافة، فيما نرى ظهور قوى فعالة "أحقّ" منهما بمنطق القوة، وهم ألمانيا واليابان والهند. وبدأنا نرى صعوداً إندونيسياً وبرازيلياً وتركياً إلى حد ما.
وكان من أبرز المطالبين بإعادة بناء "الأمم المتحدة" ومجلس الأمن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدفاعه عن فكرة أن "العالم أكبر من خمسة" التي فصّلها في كتابه "من الممكن إنشاء عالم أعدل"، وتصريحات الزعيم الماليزي مهاتير محمد بأنه "لا يمكن للدول الخمس أن يُبقُوا العالم رهينة لهم بناءً على حرب انتصروا بها قبل قرابة ثمانية عقود!".
ما العمل؟
ذكّرنا الرئيس الروسي بوتن بأن العالم يقف الآن في طريق مسدود، وعلى شفا حفرة من الانفجار، وهنا نرى المجلس المخوَّل إليه التعامل مع قضية كهذه مشلولاً بطريقة معيبة، ومن المفارقة أن روسيا هي رئيسة الدورة الحالية للمجلس.
طُرح العديد من النماذج العملية لإصلاح المجلس، منها ما كان على أساس زيادة عدد الدول الأعضاء الدائمين (وبالتالي ذوي حق النقض)، ومنها ما كان على أساس إلغاء العضوية الدائمة وحق النقض بالمجمل، إلا أن كليهما أشبه بالخيال العلمي، فلن تقبل أي من تلك القوى ذلك ببساطة، ولا يمكن القيام بذلك دون موافقتهم جميعاً حسب ميثاق المنظمة، فأي استعمال لحق النقض يبطل أي قرار. وإن افترضنا -جدلاً- قبولهم بزيادة الأعضاء الدائمين، فإن ذلك "سيزيد الطين بلّة"، وسيزيد شلل المجلس، رغم أن ذلك "أقلّ ظلماً" من البنية الحالية.
عملياً، وإلى حدّ ما مبدئياً، إن أفضل طريقة لإصلاح المجلس -في ظني- هي إصلاح العلاقة بينه وبين الجمعية العامّة للأمم المتحدة بحيث تزداد صلاحيات الجمعية على حساب المجلس تجاه أن تكون القرارات الأممية، أممية فعلاً. ولكن كل هذا يصطدم بحقيقة أن ذلك غير ممكن من دون موافقة الدول الخمس. وكل هذا لم يكن ليحدث على طاولة مفاوضات، وإنما فُرض بمنطق البندقية إثر الحرب العالمية.
في الختام، إن إصلاح مجلس الأمن ليس ترفاً، ولا يندرج في بند "الإصلاح الإداري"، بل إنه ضرورة أمنية دولية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فأمام البشرية خياران: إما أن نصل جميعاً (وتحديداً قوى الفيتو الخمس) إلى قناعة بضرورة الاصلاح، وإما أن تندلع حرب تقتلع الأخضر واليابس (ومنه الأمم المتحدة) لتتشكل إثر ذلك منظمة جديدة بشروط قد تكون مجحفة لمنتصر جديد.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.