يُعد الاستفتاء الشعبي إحدى وسائل الحكم الديمقراطي المباشر الذي يجسد إرادة الشعب وسيادته في سريان أو بطلان القرارات المصيرية، إلا أن تاريخيته وفي دولة مثل مصر تدلل على أنه قد استُغل في شرعنة الاستبداد وتمريره، لا من أجل سيادة الشعب ولا لرفاهيته، جرياً على رأي إيمانويل جوزيف "الشعب هو أساس البناء ولكن لا يجب عليه إلا أن يساند القمة ويدعمها".
وقد شكلت نسب التصويت الموافقة التي اقتربت في كثير من الأحيان حد التمام 99.99% إلى 88.83% على التعديلات الدستورية الأخيرة، معضلة عَصّية على الفهم والتفسير، في ظل ظروف وضغوط معيشية صعبة تعطي انطباعاً بعدم الرضا الشعبي عن سياسات حكامه، ومن ثمّ الرفض لا الموافقة الكاسحة، ما يفضي إلى قول البعض بتزييف نتائج التصويت وبطلان عملية الاستفتاء برمته، وهو للحق تفسير يظل بليداً لا يخلو من تكاسل ولا يجب الاكتفاء بالركون إليه.
الاستبداد
الديمقراطي
حرصت الدولة المصرية منذ أن استقلت رسمياً عن مرحلة الاستعمار، وتحديداً من بعد 1952، على إضفاء الشرعية الشعبية لما اتخذته من سياسات، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة كانت ضمن الأهداف الستة المعلنة لحركة الضباط الأحرار.
تلك الحركة السياسية الوليدة الآتية من خلفية عسكرية لا تعي سوى التنظيم والطاعة للقيادة لا السياسة والتفاوض، كانت في أمسّ الحاجة إلى الشعب لتبرير وجودها في الحيز المدني، إلا أنّ تحقيق الديمقراطية يتناقض مع حكم الفرد الواحد في السياسة، ولم تُجدِ محاولة التوفيق بين المتناقضات. غير أن شرعية الدولة ارتكزت على معادلين: الدولانية بمعنى تحقيق التنمية والاستقلال والقومية، والشعبوية بمعنى العمل بنظام الرفاه الاجتماعي الذي يُلزم الدولة بمجانية التعليم والصحة والتشغيل الكامل للعمالة وخلافه.
وبناءً عليه، استمدت الدولة المصرية "الناصرية" شرعيتها بتفويض مفتوح، لا يستلزم المشاركة السياسية المباشرة، وإنما يتطلب مساندة الدولة وتقوية جهازها البيروقيراطي فقط، إضافةً إلى شخصية كاريزمية استحوذت على ثقة الشعب وقبوله. وعليه فقد أُجري عدد من الاستفتاءات الشعبية الشكلية، وصدرت العديد من المواثيق والقوانين.
وفي الحقبة الساداتية تغيرت الهندسة الاجتماعية والسياسية، وتضخمت بيروقيراطية الدولة حتى أفرزت طبقة من المنتفعين ورجال المال والأعمال الذين تضخمت امتيازاتهم ومصالحهم الخاصة، ومع التأزم الاقتصادي، شجعت الدولة على تدفق رأس المال الأجنبي وغيرت جذرياً سياساتها الاقتصادية، وسمحت بإقامة شبكات من المحاسيب والزبائنية، وقد تخلت عن عصب التزاماتها التي كانت تستمد منها قوتها وشرعيتها.
وكما يذكر نزيه الأيوبي "فالحكومة الساداتية ركزت خطابها السياسي على أهمية قيام الناس بحل مشكلاتهم مباشرة ودون اعتماد على الحكومة، ولكن القبضة الحكومية على أمور المجتمع لم تتراخَ بالقدر الذي يسمح للناس بحل مشاكلهم معتمدين على أنفسهم".
بمعنى آخر؛ لقد حكمت الدولة في عهد السادات بالقبضة البوليسية، ولم يعد في جعبتها سوى الإحالة إلى الشعارات الشعبوية على نحو شكلي متناقض مثل الديمقراطية وحماية القيم والإيمان، والسلام الاجتماعي، والهوية الوطنية، كما جاهد السادات في "استعارة الكاريزمية الناصرية" على وجه معكوس، وعمل على تعميق الحكم بالوصاية الأبوية بصفته كبير العائلة الذي يفصل بين الرعية لا المواطنين بحكم العيب لا القانون.
وقد استند السادات ومن بعده مبارك إلى منجزاته في حرب أكتوبر، ولعب بورقة الطائفية الدينية، ولم تفُته الاستعانة بالاستفتاءات الشعبية حتى في أوج الأزمة الاجتماعية التي واجهها عام 1977 فيما يعرف بانتفاضة الخبز، التي كان من نتائجها إجراء الاستفتاء الشعبي على القرار بقانون رقم 2 لسنة 1977 الخاص بتشديد العقوبة على المتظاهرين والمشاغبين والمضربين عن العمل، وقد أسفر عن موافقة الشعب عليه بنسبة 99.42% . ولنا أن نتصور؛ هل يُعقل أن يعاقب الشعب نفسه بنفسه على احتجاجاته العادلة؟!.
هذه الحالة السياسية المتناقضة والغريبة، قد عبّر عنها عصمت سيف الدولة "بالاستبداد الديمقراطي"؛ وفيها يكون الحاكم قد استبق بتجميد العمل السياسي في الحيز العام، وسخّر الأجهزة الرقابية والأمنية والنيابية لصالح سياساته، بحيث تصير العملية الديمقراطية والدستور نفسه مسألة صورية وثانوية أي "ديكور الدولة" أمام الشعب والمجتمع الدولي، ثم تصيير القوانين والقرارات المطروحة للرأي الشعبي محصلة بديهية، أما الشعب فيحضر لقول "نعم" لأنه يعلم أن لا فائدة من قول "لا".
على درب السادات سارت الدولة المصرية في عهد مبارك وإلى الآن، إلا أن الجهاز الإداري للدولة الذي بلغ أقصى حدود تضخمه في عهد السادات، قد أصابه الترهل؛ لأنه فقد فاعليته جراء سياسات الخصخصة وتغير وظائفه، لصالح جهاز الدولة الرقابي والأمني.
كما زادت سلطة النخبة الحاكمة من هيئات الجيش والشرطة والعدل، ومجموعة رجال الأعمال والخبراء الماليين مديري المصارف ومنصات الإعلام، ووكلاء الشركات متعددة الجنسية، بحيث بات يتحكم في الدولة قلة أوليجاركية ذات صبغة عسكرية وكيان فوق قانوني، جعل الدولة تسلطية لكنها رخوة بتعبير ميردال، أو ضارية لكنها ضعيفة بتعبير نزيه الأيوبي، هذا وقد اختلّت قدرة الدولة على استخلاص الفائض من الضرائب المحلية، وتوزيع الثروة، كما أصبحت استقلاليتها على المحك بتبعيتها الاقتصادية، وخضوعها لبرامج الإصلاح الاقتصادي وإملاءات قروض صندوق النقد الدولي وتراكم الديون.
تعديل دستوري فلكلوري ونظام مفلس
المحصلة هي أن الدولة المصرية فقدت شرعية الإنجاز التنموي والشعبوي الذي أُسست عليه منذ حركة الضباط الأحرار 1952، الذي كان يقيها من المساءلة الجادة عن الديمقراطية والحريات وفتح المجال العام للتعددية الحزبية.
هذا الفقدان، إضافةً إلى إفلاسها الفكري وافتقارها إلى الحد الأدنى من شروط العدالة الجزائية أو التوزيعية والاجتماعية، بجانب إدراكها بالضغوط الشعبية والخارجية دون امتلاك حلول ناجزة، جعلها في مأزق تاريخي، استنفدت فيه كل أوراقها، وعادت بالمجتمع المصري إلى حدود متطلباته الدنيا عند حافة العيش.
ولنتذكر أن مبارك حين تأزمت شرعيته في العقد الأخير من حكمه، وتصاعدت الإضرابات والاحتجاجات ضده، كان يحتمي في منجزه التاريخي كبطل حرب، ثم إنه "يحمينا من الحرب"، بالتالي أصبح الحكم يسير بتحريك دوافع الغريزة، غريزة الخوف من فقدان الحياة سواء بالفوضى أو الحرب.
والآن يجري تخويفنا بالإرهاب، حتى شعارات الثورة الطامحة في العدالة والحرية، قد تبخرت وإن ظلت جذوتها كامنة. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على ضعف الدولة لا ضعف المجتمع، لأن المجتمع ما يزال غاضباً وغير راضٍ، حتى وإن وافق يومياً على تمديد أو تعديل دستوري لصالح النظام.
حتى إنّ هذه الفلكلورية الشعبية الاستعراضية التي حرص إعلام النظام على إبرازها بفجاجة حد الابتذال ، تعكس هشاشة الدولة واحتياجها إلى ظهير شعبي مفقود، كذلك فإن استعراض النظام البائس في كل مناسبة بمسمى الواقعية والشفافية لمظاهر الفقر وتبعاته من تفشي المرض والجهل، كتركة ثقيلة موروثة، ليس له يد فيها؛ ما هو إلا استناد إلى شرعية خاوية مبنية على لعبة الضدية التي يمجد فيها ذاته من شيطنة سابقيه وخصومه، بينما يجمع في أساليب حكمه وبعشوائية كل مساوئهم!
هذا المأزق يجسده بجدارة أيضاً، مشهد رئيس جامعة القاهرة الذي وجه الطلاب إلى عملية التصويت في الاستفتاء، على نحو مهين وشائن؛ إذ يعكس تحولات التعليم الوظيفية وتجريده من القيمة والجدوى؛ تبعاً للتغيرات الجذرية التي أصابت هيكلة الدولة والتزاماتها، فيما يتعلق بملف التوظيف، وطبيعة جهازها البيروقيراطي المؤسسي الذي لم يعد في حاجة إلى هؤلاء الطلاب، وعليه لم يعد التعليم "الحكومي" سبيلاً للارتقاء المجتمعي وقوة الطبقة المهيمنة.
هذا غير عجز الدولة في مسألة المواطنة، وتسييس الدين على نحو فج في تمرير سياساتها، والترويج والاستغلال لبعض الشعارات الشعبوية التي تنم عن جهل السلطة وديماجوجيتها، مثل تصريح رئيس مجلس النواب "مدنية الدولة تعني أننا لسنا دولة علمانية ولا عسكرية ولا دينية"، وذلك في إطار الجلسة النيابية الخاصة بالتصويت على التعديلات الدستورية الأخيرة.
هذه المدنية "العجيبة" تحميها القوات المسلحة، وهي المدنية التي تجعل أحد القساوسة يدعو رعاياه في الكنيسة للتصويت بالموافقة على التعديلات رداً للجميل، وما هو هذا الجميل؟ المنّ ببناء عدة كنائس هنا وهناك! في حين المساواة المواطنية تساوي"صفر".
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.