واقترب من مستويات استراتيجية في موضوع الربط الكهربي والسكة حديد والتعاون العسكري والنقل البحري؛ وذلك على خلفية القناعة السودانية بمخاطر التمدد الإثيوبي على الولايات السودانية الشرقية ووجود مخططات وصلت إلى المراحل التنفيذية الميدانية في جانب التغيير الديمغرافي والسيادة على الأرض والتحكم في مصادر المياه ومواردها.
وما يزال المصريون والسودانيون مصرّين على ضرورة الوصول إلى اتفاق ملزم حول ملء سد النهضة وتشغيله بما يحفظ الحقوق المائية لمصر والسودان، ويحدّ من الأضرار على دولتي المعبر والمصب، ويحقق مصالح الدول الثلاثة؛ وطالبوا إثيوبيا بتقديم مبادرات تظهر حسن النية من خلال الانخراط في عملية تفاوضية سريعة تسبق الاستعدادات للملء الثاني مع بداية موسم الأمطار في مايو المقبل، والتي من المتوقع أن تستحوذ على كمية مياه تتجاوز ما استحوذت عليه في الملء الأول بثلاث مرات، والذي قد يصل إلى 15 مليار م3.
وإزاء الرفض الإثيوبي للمقترحات المصرية والسودانية، وثبات الموقف الإثيوبي الذي استفاد من أخطاء التفاوض المصري السوداني، وفشل في إدانة إثيوبيا في مجلس الأمن من خلال ظهير روسيّ وصينيّ، وشرع في تنفيذ المشروع على أرض الواقع بإصرار فإن مصر والسودان أمام مروحة من الخيارات التي يمكن نقاشها؛ وقد كان واضحاً أن إثيوبيا مارست الخداع الاستراتيجي حيث أغرت مصر بالتوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ الذي منح الشرعية لبناء السد وتجاوُز الاعتراض المصري مقابل التزام إثيوبيا بعدم الملء الأول إلا بعد الاتفاق على الخطوات الإرشادية وقواعد الملء الأول، وهو ما فعلت إثيوبيا خلافه تماماً، وفرضت الأمر الواقع.
وتبدو أثيوبيا واثقة من عدم وجود قرار استراتيجي مصري بمنع إجراءات الملء الثاني، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تصعيداً تفاوضياً عالي الصوت في مرحلة عض الأصابع الأخيرة، ولكنه لن يتحرك على خطوط النار، لاسيما أن بين السودان ومصر أزمة حدود مستعصية في حلايب وشلاتين وأبو رماد توتّر الأجواء دائماً بين الطرفين؛ وأن الخلاف الآن هو في تفاصيل الملء والتشغيل وليس على وجود السد، وأن ثمة اختلافاً في درجة الشعور بالخطر ومداه بين مصر والسودان يمكن أن يغيّر معادلة التحالف المؤقت؛ ومع ذلك فقد وضعت إثيوبيا نفسها في جاهزية عسكرية متقدمة في الجبهة الحدودية، وتمكنت من نسج تحالف عسكري مع جارتها إرتريا لتوسيع الجبهة وتعقيدها إذا تطورت الأمور على غير قياساتها.
ويمكننا هنا حصر الخيارات المتاحة أمام المحور المصري السوداني في مواجهة ملف سد النهضة.
الخيار الأولوهو الخيار السياسي والدبلوماسي والقانوني عبر الاتحاد الإفريقي ثم عبر مجلس الأمن، والعمل على إغلاق الأبواب أمام القروض الدولية للسد، كما تسعى مصر لإشراك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في لجنة رباعية مع الاتحاد الإفريقي لتدويل القضية عبر أدوار وساطة حقيقية وليس أدوار رقابة، بحيث تتدخل هذه الدول لتجميد المساعدات والمنح إلى إثيوبيا إذا نقضت الاتفاقات أو تعنتت في الوصول إلى اتفاق يرضي الجميع.
وتبدو المهمة عسيرة جداً نتيجة لنفوذ اثيوبيا الكبير على الاتحاد الإفريقي الذي يتخذ من أديس أبابا مقرا له، خاصة أن الاتحاد الإفريقي هو المفاوض الرئيسي المعتمد لدى الأمم المتحدة في التعامل مع قضايا القارة؛ ولا تبدو المراهنة على مجلس الأمن رابحة مع الرؤية الجديدة للإدارة الأمريكية التي تسعى لإخماد نار الصراعات في المنطقة الملتهبة أساساً؛ نظراً لتداعياتها الكبيرة على القرن الإفريقي والبحر الأحمر والتي ستمتد إلى حوض المتوسط وجنوبي القارة الأوروبية مع تدفقات المهاجرين المتوقعة نتيجة الصراع، ولن تكون بعض دول الشرق الأوسط مثل "إسرائيل" في معزل عن تحوّلها إلى قبلة لهؤلاء المهاجرين من القبائل الحدودية المستضعفة؛ وستعتمد إثيوبيا على التخوفات الصينية والروسية من التدخل الأمريكي في المنطقة وستعمل على تعطيل أي خيار تدعمه الولايات المتحدة على حسابها.
أما الخيار الثاني فيتجه صوب إضعاف الحضور الإثيوبي في منطقة السد، وهي منطقة مضطربة أمنياً أساساً حيث إن قومية التغراي التي شنّ عليها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد حربه الأخيرة تعدّ المنطقة من مجالات نفوذها، كما أن قبيلة بني شنقول ذات الأغلبية المسلمة والتي تعدّ نفسها سودانية تسكن هذه المناطق منذ دهر طويل، ولها جبهة عسكرية مسلحة مفتوحة ضد الجيش الإثيوبي وأجهزة الأمن الإثيوبية؛ ويخشى الإثيوبيون من تطور التعاون السوداني المصري لدعم التغراي وبني شنقول عسكرياً وأمنياً وتوفير بيئة حاضنة لهذه المعارضة؛ كما تخشى من المعلومات عن إعادة التواصل مع المعارضة الإرترية المسلحة بغرض إضعاف التحالف الإثيوبي الإرتري؛ فيما تتوقع مصادر إثيوبية أن تلجأ مصر إلى خيار دعم الحركات التي تدعو إلى انفصال المنطقة عن إثيوبيا وتكوين جمهورية صغيرة، وهو أمر بالغ الخطورة في المنطقة المكتظّة بالخلافات القبلية القديمة.
وأخيرا الخيار الثالث، فلا يستبعد ضربة عسكرية جوية بالطائرات أو بصواريخ أرض أرض أو هجمات برية لاسيما أن لسان سد النهضة على الحدود السودانية الإثيوبية مباشرةً، ومن المعلوم أن تدمير هيكل السد العملاق يتطلب قنابل نوعية تخترق التحصينات لا تمتلكها مصر حالياً أو لا تستطيع استخدامها، مما يعني أن الخيار العسكري إذا بدأ فإنه سيكون في سياق سياسي لخدمة المسار التفاوضيّ وإجبار إثيوبيا على التجاوب مع المطالب المشتركة لمصر والسودان؛ وهذا الخيار مرفوض دولياً، لكنه قد يكون مخرجاً لتفكيك حالة الجمود القائمة في التفاوض.
وفي العموم فيبدو أن الإرادة الإثيوبية وديناميكية القرار والحركة الإثيوبية هي الأسرع على الأرض والأصلب في الممارسة الميدانية، كما أن الوقت يلعب دورا مساعداً للإثيوبيين الذين وصلوا المراحل الأخيرة لتنفيذ مشروعهم دون أن يتعرضوا لمواجهة مصيرية كان الإعلام يروِّج لها، ومع ذلك فإن هذه القضية ستكون موضع اشتباك دائم مع مصر والسودان، وستؤسس لمسار استراتيجي سلبي طويل في التعامل بين هذه الدول.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.