كان من المفترض أن يكون صباح يوم الاثنين 6 فبراير/شباط 2023 صباحاً اعتياديّاً لا يحمل أي أحداث استثنائية، ولكن في حدود الساعة الرابعة وست عشرة دقيقة صباحاً كان الجنوب التركي والشمال السوري على موعد مع حدث استثنائي في ضحاياه من حيث الألم، وفي تضامن الشعب داخلياً والشعوب الأخرى من حيث العطاء الإنساني والتكاتف.
لن أتحدث هنا عن الزلزال، فالكل يعلم هول ما حدث، ولن أتحدث عن جهود الإنقاذ التي يمكن مشاهدتها عبر شاشات التلفاز، ولكني سأروي هنا تجربتي الشخصية التي بدأت بمشاهدتي الشخصية لمئات المتطوعين الذين ينتظرون السفر في مطار إسطنبول على مدار يومين، ثم رحلة الذهاب بالسيارة ضمن قافلة بسيطة من 7 سيارات مدعومة جزئياً من منظمات مصرية خيرية داخل تركيا بالتنسيق مع الجهات التركية المختصة.
مطار إسطنبول
كانت هذه هي الخطوة الأولى لي بعد حدوث الزلزال. كانت الصدمة هي المسيطرة على الموقف، فـ10 ولايات كبرى دُمّرَت في تركيا بخلاف المناطق السورية. ملايين المواطنين بين ليلة وضحاها صاروا بلا مأوى. قُدّر لي أن أكون في مطار إسطنبول يومَي 7 و8 فبراير لأشاهد مئات المتطوعين الأتراك يتوافدون سريعاً ليضعوا أنفسهم تحت خدمة إدارة الكوارث التركية (AFAD) للسفر سريعاً إلى المناطق المنكوبة. على مدار يومين شاهدت بعيني توافد مئات وسفرهم. كان الشباب المتطوعون الأتراك من كل الفئات العمرية والمجتمعية، الكبير بجوار الصغير في السنّ، الغنيّ بجوار الفقير، الجميع يفترش أرض المطار في الأماكن المخصصة انتظاراً للسفر.
في اليوم الثاني لي 8 فبراير وقبل مغادرتي المطار شاهدت مهنداً، وهو شابّ مصري صديق لي، وقد نجح في الحصول على تذكرة للسفر إلى مدينة غازي عنتاب مع صديق له ليتطوعا ضمن فرق الإنقاذ هناك، كنت فخوراً به وأنا أصافحه وأودّعه. ظل مهند يشارك في جهود الإغاثة حتى يوم 12 فبراير قبل أن يعود إلى إسطنبول ليهاتفني بعدها متألماً أنه يشعر أنه قادر على فعل مزيد، لذلك علينا أن ننظر حولنا لمعرفة إن كان لمساعدة الضحايا وذويهم فرصة أخرى".
بعدها، تحديداً يوم الخميس 9 فبراير، طلبت من أصدقاء لي أن يبلغوني بأي فرصة للتطوع في أي قافلة إنقاذ، وفي الساعة 11 مساء الخميس هاتفني صديقي محمد طالباً مني الاستعداد للسفر ضمن قافلة من 7 سيارات قبل فجر يوم الجمعة.
الطريق إلى أنطاكيا
تَجمَّع فريقنا في السادسة صباحاً تقريباً، تَجهَّزنا بالملابس والمعدات الشخصية من خوذ حماية وكشافات رأس وكشافات يد وأدوات أخرى، بالإضافة إلى الطعام اللازم. تحركنا إلى أول محطة توقف على الطريق السريع إلى مدينة أنقرة، ثم إلى محطة التوقف الثانية داخل أنقرة، ثم إلى مدينة أضنة، كنا نعيد التزوُّد بالوقود في كل محطة، وفي ولاية أضنة ملأنا ما يقارب 40 لتراً من الوقود في جراكن خارجية للاحتياط، لإخبارنا بضرورة ذلك لصعوبة الحصول على الوقود داخل مدينة أنطاكيا.
وصلنا إلى مشارف أنطاكيا بعد ما يقارب 18 ساعة من القيادة تناوبنا عليها جميعاً في كل سيارة. رغم كل ما رأيته من مقاطع فيديو عن المدينة بعد الزلزال فإن الواقع كان أكثر قسوة بشكل يصعب تخيله، أضواء سيارات الإسعاف في كل مكان، المدينة مدمَّرة بشكل كبير، المنازل مهجورة، ومن بقي على قيد الحياة تراه يبحث بين أنقاض المنازل عن حبيب له، أو تُجلِيه السلطات من المدينة إلى أماكن أخرى كمأوى مؤقت له.
استغرق طريقنا داخل أنطاكيا ساعتين إضافيتين لنصل إلى الموقع المخصص لنا، كان مجمع سكني متضرر ويحيط به مجموعة من الأبنية بعضها متهدم كليّاً وبعضها متهدم جزئياً، وهناك قابلنا فريقاً مصرياً اندفعوا كالفرسان ليكونوا مع أبطال منظمة الإغاثة التركية IHH منذ الساعات الأولى. أعطانا قائد الفريق المصري تعليمات أولية تضمنت تنبيهات السلامة والتعامل مع الموجودين في منطقة الإنقاذ، ليصطحبنا بعدها طبيب مصري اسمه كريم لشرح واقع البنايات والمجهودات التي بُذلَت. كان من أسعد الأشياء التي نقلها صوتُه الضعيف المتعب لنا كيف أنهم ساهموا في هذا اليوم في إنقاذ طفلتين من أحد الأبنية المتهدمة. إنه الأمل الذي يعمل عليه الجميع وسط هذا الدمار.
بعدها وُزّعنا فرقاً صغيرة، ثم كُلّفت مع 7 آخرين من فريقنا المصري تقديم المساعدة للفريق الفني التركي التابع لمنظمة IHH.
كان الفريق يعمل لمدة طويلة بلا كلل وبإخلاص، ولكن للأسف لم نجد أحياء كما كنا نأمل في أحد أجزاء العمارة التي كنا مكَّلفين إياها.
قُبيل فجر السبت 11 فبراير عشت لحظات من الأمل عندما شكّ أحد أفراد الفريق التركي في صدور ضوء من بين الأنقاض، وكنت أقف بجواره فقال لي: "انظر هناك، أليس بين الأنقاض ضوء كالفلاش؟!"، نظرت فرأيت مثل ما قال، فهتفنا سريعاً: "احتمال وجود ناجٍ!".
في لحظة أطلق قائد الفريق صفارته لمرة واحدة، وهي تعني أن يصمت الجميع وتُطوَى كل المعدات وتُطفأ كل أضوائنا، واندفع مع متخصصي الإنقاذ العاجل إلى المكان الذي أشرنا إليه وسط مشاعر الترقب، ولكن بعد مدة اكتشفنا أن الضوء الذي رأيناه نتج عن قطعة مرآة صغيرة بين الأنقاض انعكس عليها ضوء خارجي.
فأطلق رئيس فريق العمل صفارته مرتين للعودة إلى العمل.
في الصباح استخرجوا أول جثمان، وبعدها اختاروني أنا وصديقاً لي لكي نساعدهم.
كانت رائحة الموت تملأ المكان ونحن نبحث عن نحو 40-60 ضحية من سكان العقار.
بعد قليل وأنا أزيح التراب بمعول صغير برفق حتى لا نصيب أي جثمان، نبّهني صديقي لظهور شعر رأس طويل. كنا نعلم أننا بقرب جثمان لعوامل عدة، لذلك كانت الحركة ببطء وحرص شديدَين.
جاءني المسؤول عنا من الفريق التركي، ثم سألني بودّ إن كنت أريد التراجع لأن هذا حقي، قلت له: "لا، سنكمل"، قال: "هل ستخاف من الجثامين؟"، قلت: "لا"، ثم سألني أسئلة سريعة للتأكد من استعدادي النفسي للموقف.
ثم قال لي: "هل ساعدت في حالات مشابهة؟"، فأومأت له برأسي أن "نعم"، فربت على كتفي وسمح لي أنا وصديقي باستكمال استخراج الجثمان معهم.
ليست المرة الأولى في حياتي للتعامل مع الجثامين، ولو بعد مدة من وفاتها، ولكنها المرة الأولى لي التي أستخرج فيها جثماناً من تحت الأنقاض.
استطعنا إزاحة الأتربة من نصف الجثمان الأعلى، ولكن ما زال نصفه بين الخرسانة، لذلك كان يجب التدخل بمعدات ثقيلة. بعد ما يقارب الساعة وبحرص كبير اكتشفنا جثماناً آخر بجواره، رحمهم الله جميعاً.
في ظهر يوم السبت اكتشفت إحدى الفرق في موقعنا طفلاً على قيد الحياة ليُنقَذ سريعاً، إنه الأمل الذي دفعني إلى كتابة هذه التجربة، الأمل.
وهو الأمل الذي أختم به كلماتي موجهاً تحية مستحَقَّة للأبطال في مناطق الزلازل في جنوبيّ تركيا وشماليّ سوريا، تحية للأطباء وفرق التمريض والإسعاف الأوّليّ، لفرق الإنقاذ التابعة لإدارة الكوارث (AFAD) ومؤسسة الإغاثة التركية (IHH)، وفرق الإنقاذ والدفاع المدني والخوذ البيضاء في شماليّ سوريا، ولآلاف المتطوعين من الداخل والخارج الذين امتلأ بهم مطار إسطنبول والطرق السريعة الداخلية في تركيا متجهين بالآلاف بلا مبالغة إلى المناطق المنكوبة في ملحمة بطولية نسيجها الأمل لإنقاذ كل روح يمكن إنقاذها.
هؤلاء الأبطال وضعوا أرواحهم على حافة الخطر ثمناً بسيطاً للأمل، فقدنا بعضهم في عمليات الإنقاذ وبعدها، ولكنهم ساهموا في إنقاذ آلاف الأرواح، ووفق تصريح رئيس الجمهورية التركية بتاريخ 14 فبراير، فإن فرق الإنقاذ ساهمت في إنقاذ أرواح 8000 إنسان. نعم، لقد قرأت الرقم صحيحاً، لقد أُنقِذَ ثمانية آلاف إنسان من بين ركام الزلزال، وما زالت عملية الإنقاذ جارية في لحظة كتابتي هذه الكلمات.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.