وقال الوزير جاوش أوغلو إنه أبلغ نظيره الروسي سيرغي لافروف القرار في شهر مارس/آذار الماضي لنقله إلى الرئيس فلاديمير بوتين، على أن يدخل حيز التنفيذ نهاية أبريل/نيسان الجاري، كما أشار وزير الخارجية التركي إلى تقبُّل بوتين للقرار بهدوء وإيعازه إلى أركان سلطته بالتعاطي الإيجابي معه.
لا شك أن الإعلان بدا مفاجئاً، بخاصة أننا نتحدث عن قرار اتُّخذ منذ شهرين تقريباً، وظلّ طوال الوقت بعيداً عن الأضواء والإعلام، وهو ما يعني حكماً أن تركيا لم تُرِد أحداث ضجَّة حوله لتفادي حصول أزمة في العلاقات مع روسيا.
من هذه الزاوية تحديداً يمكن وضع القرار الجديد في نفس سياق تطبيق تركيا اتفاقية مونترو ومنع مرور السفن الحربية الروسية -وغير الروسية- عبر مضايقها وممراتها البحرية زمن الحرب، وهو القرار الذي تم اتخاذه أيضاً بشفافية وموضوعية وعلى قاعدة احترام أنقرة المواثيق والمعاهدات الدولية، والتزاماتها الثنائية والجماعية، ومرّ أيضاً بهدوء وتفهُّم وعبر قنوات اتصال مفتوحة مع موسكو.
بدت لافتة جداً أيضاً إشارة الوزير جاوش أوغلو إلى طلب إبلاغ الرئيس بوتين القرار وتقبُّل هذا الأخير له بهدوء وانفتاح، والطلب من مرؤوسيه التعاطي معه بأريحية وإيجابية علماً أنه اتُّخذ منذ شهرين تقريباً، وطوال هذه المدة لم تتأثر العلاقات التركية الروسية سلباً بأي حال من الأحوال، بل بقيت الخطوط مفتوحة بين الرئيس رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي والأجهزة والسلطات المعنية في البلدين بشكل عامّ.
كذلك استمرت تركيا في جهود الوساطة الجدية والوحيدة عملياً لإنهاء الحرب في أوكرانيا، علماً أن الرئيس الروسي وافق كذلك على إرسال وزير خارجيته للقاء نظيره الأوكراني في مدينة أنطاليا نهاية فبراير/شباط الماضي، وخلال الفترة نفسها استضافت تركيا لقاءً تفاوضيّاً رفيع المستوى بين الجانبين برعايتها، إذ رسمت معالم وأسس اتفاق السلام المحتمَل بين الجانبين ولو بعد حين.
اللافت أيضاً أن قرار إغلاق الأجواء التركية لا يتعلق فقط بالطائرات العسكرية، بل تلك المدنية التي تُستأجر لمهامَّ أخرى بما في ذلك نقل الجنود أو المعد ات العسكرية، مع الانتباه لحقيقة أننا لسنا أمام إغلاق الأجواء التركية بشكل تامّ أمام الطائرات الروسية، كما هو الحال مع إبقاء الممرات والمضايق مفتوحة أمام السفن المدنية طبعاً.
والأكيد أيضاً أن تركيا ليست بوارد الانخراط في العقوبات الغربية ضد روسيا أو حتى خفض مستوى العلاقات معها على خلفية غزوها العسكري لأوكرانيا. وفي هذا الصدد بدا تصريح وزير الدفاع خلوصي أقار على هامش اللقاء الذي دعت إليه أمريكا لدعم أوكرانيا عسكرياً في قاعدة رامشتاين بألمانيا معبِّراً جدّاً، إذ تَحدَّث عن مُعطَيَين أساسيَّين حَكَمَا الموقف التركي ولا يزالان، وهما تطبيق اتفاقية مونترو، والسعي الدؤوب لجلب الطرفين إلى طاولة التفاوض من أجل التوصل إلى حلّ سلمي للصراع بينهما، إضافةً إلى قاعدة تنفيذ المواثيق الدولية زمن الحرب نصّاً وروحاً، وعدم الصدام مع روسيا.
واضح أن للقرار أسباباً وخلفياتٍ، منها الضغط الهادئ والناعم على روسيا للعودة إلى خيار عملية التسوية والتفاوض الجدّي مع أوكرانيا بعدما ابتعدت عن ذلك بعد الادعاءات حول فظائع بوتشا وإطلاق معركة السيطرة على إقليم دونباس الذي يضمّ جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، وهي معركة قد تستمرّ شهوراً وربما سنوات، وتراكم بالتأكيد مزيداً من الصعوبات والعراقيل أمام العودة إلى طاولة التفاوض الجدية والوحيدة في تركيا.
من هنا أيضاً تتبدى أهمية المهلة الطويلة نسبياً، أولاً لإعطاء روسيا فترة مناسبة للتأقلم معه، والأهمّ أنها وفرت مساحة زمنية لوقف تنفيذه لو تمّ إنهاء الحرب والتوصُّلُ إلى اتفاق سلام أو حتى الانخراط الفعلي في عملية تسوية جادة ووقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب ومغادرة الخيار العسكري باتجاه الخيار السياسي والدبلوماسي الذي تدعمه ولا تزال تركيا، بل تبدو وحدها الحريصة عليه. وهنا أيضاً لا بد من الانتباه لتصريح لافت لوزير الخارجية جاوش أوغلو، قال فيه إنه خرج بانطباع بعد اجتماع وزراء خارجية حلف الناتو مفاده أن بعض أعضاء الحلف يسعون لإطالة الحرب من أجل إنهاك وإضعاف روسيا.
إلى ذلك تزامن القرار التركي مع اتصال الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بالرئيس أردوغان وطرح مبعوثه للشؤون الإنسانية مارتين غريفيث فكرة تأسيس مجموعة تواصُل إنساني حول أوكرانيا يكون مقرُّها في تركيا، ثم زيارة غوتيريش نفسه أنقرة قبل سفره إلى موسكو وكييف، في تكريس لمكانة تركيا واعتبارها مدخلاً طبيعياً لا غنى عنه في جهود وقف الحرب.
في السياق الأوكراني وبما يتعلق بالتضييق على الخيار العسكري، واضح أيضاً أن تركيا لا تريد أن تنقل روسيا مرتزقةً من سوريا للمشاركة في أعمالها الحربية هناك، علماً أن مصادر سياسية وإعلامية سورية موثوقة ومتعددة تحدثت عن تجنيد مرتزقة من أتباع نظام بشار الأسد للقتال إلى جانب روسيا في معركة دونباس الطويلة والمرهقة، كما تحدث الرئيس بوتين نفسه عَلَناً عن ذلك، وأعطى أوامر لوزير دفاعه سيرغي شويغو لتسهيل حضور من يريد المشاركة في الحرب إلى جانب روسيا.
مع ذلك ورغم أن القاعدة الأساسية للقرار التركي هي أوكرانية بامتياز، فإن أبعاداً أو جوانبَ أخرى منه تتعلق بسوريا نفسها، وواضح أيضاً أمام رسالة احتجاج تركية على تجاوزات وانتهاكات روسيا لتفاهمات سوتشي ومناطق خفض التصعيد عبر قصف مناطق في محافظة إدلب وحلب وحتى في شمال اللاذقية لأول مرة منذ فترة طويلة.
في سياق إقليمي أوسع، فبين القرار وعملية المخلب-القفل التي تنفذها القوات التركية ضدّ مقاتلي تنظيم PKK الإرهابي شمالي العراق علاقة يُفترض أيضاً أن تمهّد وتخلق بيئة مؤاتية أمام عملية مماثلة ضدّ عناصر التنظيم في سوريا بعد إقفال الحدود العراقية عليهم، ومعلوم طبعاً أن روسيا لاعب مهمّ هناك، ولا بأس بالضغط عليها لعدم عرقلة تنفيذ الشق السوري من المخلب-القفل.
إضافة إلى ما سبق، لا يمكن تجاهُل البعد الأمريكي للقرار التركي الذي اتُّخذ في أثناء البرود في العلاقات مع واشنطن، ولكنه دخل حيّز التنفيذ بعد حصول تطوُّر إيجابي في العلاقات، ولا شك أنه سيعطي دفعة قوية لسيرورة تحسُّن وتطور العلاقات بينهما.
في الأخير وباختصار، يمثّل القرار دليلاً إضافياً على سيادة تركيا وقرارها المستقلّ، ويؤكّد أيضاً أنها باتت نموذجاً فريداً بالمعنى الإيجابي في علاقاتها مع روسيا وأمريكا والعالم، ورغم القرار نفسه والتباين مع موسكو، كما هو مع واشنطن حول ملفات وقضايا أخرى، فإن مشهد تبادُل المعتقلَين بينهما أمس الأربعاء على مدرج مطار تركي يشرح ويختصر القصة كلها، إذ لا غنى عن أنقرة ولا يمكن تجاهلها أو تجاوزها في الوساطات الحميدة بين الدول مع احترام سيادتها وقراراتها المستقلَّة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.