صمت مطبق، هكذا يبدو المشهد في تل أبيب اليوم، مختلفٌ في شكله عن التصعيد في مصر واليونان وقبرص الجنوبية التي أعلنت مؤخراً رفضها توقيع مذكرتَي تفاهم بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دولياً.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 27 نوفمبر الماضي/تشرين الثاني، وقّع في إسطنبول اتفاقيتي تفاهم مع رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية، فايز السراج، تتعلقان بالتعاون الأمني والعسكري بين أنقرة وطرابلس، يضاف إليهما التفاهم فيما يخص تحديد مناطق الصلاحية البحرية وفق القانون الدولي لحماية حقوق البلدين.
الصمت الإسرائيلي ليس عابراً إزاء قضية كهذه، خاصة أن إسرائيل لم تكن تخفي دعمها للمحور اليوناني المصري للتنقيب عن مصادر الطاقة في البحر المتوسط، والذي أمدّته بكل أنواع الدعم سراً وعلانية، وانتهز قادتها الفرص بمناسبة أو بدون، من أجل انتقاد تركيا والإشادة بالحلف الذي ترى أنقرة أنه شُكّل من أجل استفزازها والاستيلاء على حصص من نصيبها ونصيب القبارصة الأتراك في البحر المتوسط.
في الـ28 من يناير/كانون الثاني عام 2016 حطّت طائرة تُقل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطار أثينا، كانت تلك زيارة رسمية لا هدف لها سوى التخطيط لدعم "جهود اليونان ومصر" في التنقيب عن الغاز، على الرغم من إدراكه أن الأمر يتم بدون الاتفاق مع تركيا، وفي طبيعة الحال يستفز الأتراك الذين عبّروا غير مرّة عن استعدادهم للدفاع عن حقوقهم في البحر الأبيض المتوسط.
خلال تلك الزيارة اجتمع نتنياهو مع رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس، ورئيس الشطر الجنوبي لقبرص نيكوس اناستاسيادس، وكانت تلك أوّل قمّة تُعقد بين هذه الأطراف مجتمعة لبحث سير "حلف" التنقيب عن الغاز في البحر المتسوط. حسب موقع واللا الإسرائيلي.
قبل هذا الاجتماع بنحو خمس سنوات فقط، بدأت المساعي الإسرائيلية لعقد اتفاقات مع اليونان وقبرص الجنوبية من أجل إقامة "قوّة مانعة" هدفها استخراج الغاز الطبيعي الذي اكتُشف مؤخراً في البحر المتوسط، ولم يكن الغرض هو استخراج هذه المقدرات من أعماق البحر فحسب، "بل السعي المشترك لتصدير الغاز إلى الدول الأوربية".
في ظل هذا التقارب بين قبرص اليونانية ومصر وإسرائيل واليونان، لم تتنازل تركيا عن حقها في التنقيب عن الغاز في منطقة الجرف القاري التركي عند خطوط الطول 32 و16 و18 درجة، فيما قال وزير خارجيتها مولود جاوش أوغلو إن بلاده تقدمت بطلب لرفض اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص اليونانية، بوصفها "تنتهك الجرف القاري التركي". وأعلنت في 3 مايو/أيار 2019، عن نيتها إجراء عمليات تنقيب عن الغاز في منطقة من البحر المتوسط.
الأيادي الإسرائيلية خلف التصعيد بما يتعلق بغاز شرق المتوسط لم تكن خفية، إذ ذكرت مجلة "جلوبس" الإسرائيلية في حينه، أن إسرائيل تعمل في الظل أيضاً جنباً إلى جنب مع قبرص اليونانية من أجل "توفير الحماية لآبار الغاز"، وأشارت إلى أن وزير الخارجية السابق أفيغدور ليبرمان زار قبرص اليونانية وأجرى مباحثات في الشأن ذاته.
لم يفت وزير الخارجية الإسرائيلي خلال تلك الزيارة أن يبدي دعمه لقبرص الرومية غير مرّة، إذ أشار إلى أن إسرائيل تدعم قبرص اليونانية في نزاعها مع تركيا بشأن التنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط، ولعلّه كان أوّل تصريح إسرائيلي رسمي بهذا الخصوص.
وعلى الرغم من الصمت الإسرائيلي المطبق إزاء توقيع مذكرة التفاهم التركية-الليبية مؤخراً، إلا أن الأمر حظي بتغطية إعلامية واسعة على صعيد محلي، وتناوله عدد من المحليين والخبراء بالشرح والتفصيل، إذ رأوا أن الاتفاق من شأنه أن يشكل تهديداً كبيراً لإسرائيل ومشاريعها التي كانت تسعى إلى تحقيقها من خلال التقارب مع مصر واليونان.
تضييق الخناق
يقول محلل شؤون الشرق الأوسط في صحيفة هآرتس الإسرائيلية تسفي بريئيل، إن اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا من شأنه أن يضيّق الخناق على اليونان وإسرائيل ومصر وجنوب قبرص على حد سواء، إذ تستطيع تركيا بموجب الاتفاقية هذه أن تنقب عن النفط والغاز وعرقلة خطوط نقل الغاز إلى أوروبا عبر البحر المتوسط".
ويشير إلى أن خط الغاز الذي تخطط إسرائيل ومصر واليونان لتمريره إلى أوروبا، صار تنفيذه بحاجة إلى التفاوض مع تركيا، ولعل هذا ما أشار إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مقابلة مع TRT إذ قال إن "مصر وإسرائيل واليونان لا تستطيع التنقيب عن النفط في المتوسط دون الحصول على إذن تركيا".
وقال إن دول الاتحاد الأوروبي، وفي حال سعت إلى فرض عقوبات على تركيا لهذا السبب، "فقد أصبحت مضطرة لتبرير سبب العقوبات وسبب رفضها للاتفاقية الرسمية الموقعة بين أنقرة وطرابلس وهما جهتان ذاتا سيادة ومعترف بهما".
ويعتقد المحلل الإسرائيلي أن تركيا تبدو واثقة بنفسها بعد توقيع مذكرتي التفاهم، "ما يشير إلى أنها تقف على أرضية قانونية صلبة".
ويرى أن مصر وإسرائيل واليونان، هذه الدول التي تتعامل مع تركيا على أنها دولة معادية، تدرك جيداً أنها صارت مجبرة على دفع رسوم لأنقرة مقابل مد خطوط النفط والغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي بعد هذه الاتفاقية.
ويبدو واضحاً أن تل أبيب باتت متخوفة بشأن مصير تحالفها مع اليونان ومصر والفائدة التي كانت ترجوها من خلاله، كما تتخوف بشأن مصير خطوط الغاز التي كانت تسعى إلى مدها عبر البحر المتوسط إلى الدول الأوروبية.
في الـ25 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2018 أعلنت إسرائيل رسمياً توقيع اتفاق ما يُعرف بـ"مشروع شرق المتوسط" بالتوافق مع كلٍّ من اليونان وإيطاليا، وهو الذي يهدف إلى البدء بمد خطوط غاز من إسرائيل إلى أوروبا.
ولم تُخفِ إسرائيل غرضها الثاني بعد الاقتصادي من هذا المشروع الذي تمّ بمباركة الإمارات العربية المتحدة، وهو عرقلة نفوذ بعض الدول العربية في أوروبا؛ إذ قال وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شطانيس لصحيفة معاريف: "إن تل أبيب كانت تشكو على مر عقود هيمنةَ النفوذ العربي في أوروبا خاصة فيما يتعلق بالطاقة"، مشيراً إلى أن خطوط الغاز الإسرائيلية هي ما سيقوض ذلك".
من جانبه، يرى المحلل السياسي الإسرائيلي جاي بيخور أن الاتفاق التركي الليبي من شأنه أن يشكل تهديداً مباشراً للمصالح الإسرائيلية، "إذ من شأنه أن يعرقل مشروع مد خطوط الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي ما يُسبب ضرراً للاقتصاد الإسرائيلي".
الصحفي الإسرائيلي إيهود يعاري يقول: "إن إسرائيل ما زالت تلتزم الصمت إزاء الاتفاقية التركية-الليبية، لكن شريكيها في حقل الغاز "لفيتان"، مصر واليونان مستعرتان من شدة الغضب".
وأشار إلى أن تركيا، بموجب الاتفاقية، سيطرت على مساحات واسعة من منطقة شرق المتوسط.
ويرى أن توقيع مذكرتَي التفاهم يعني، بشكل أو بآخر، أن تركيا ضمّت المنطقة الاقتصادية الواسعة في المتوسط، ويلفت إلى أن إسرائيل ستبدو متخبطة بعد هذه الاتفاقية، ويتساءل قائلاً: "كيف يمكن أن يتم مدّ خطوط الغاز من حقل "لفيتان" الإسرائيلي إلى إيطاليا في الوقت الذي ترى تركيا أنها صاحبة السيادة على جزء واسع من الطريق التي كان يجب أن يسلكها هذا الخط؟".
ويقول: "إن إردوغان يغيّر قواعد اللعبة في الشرق الأوسط من خلال هذه الاتفاقيات، وفي حال استمر ذلك لا نعرف إلى أين تمضي الطريق".
وبينما يستشعر البعض في إسرائيل الخطر، يقول الرئيس التركي إن بلاده لن تتساهل أبداً في حال قامت جنوب قبرص واليونان وإسرائيل ومصر بإنشاء خط غاز في المناطق التي تخضع للسيطرة التركية.