يشكّل مشروع قانون الاستثمار الجديد الذي أعلنت عنه الحكومة الجزائرية، الانطلاقة الحقيقية في بناء اقتصاد له كلمته في المنطقة الإفريقية والعربية، وذلك بتشجيع قطاعات الصناعات الناشئة والمتوسطة التي تعتقد الحكومة أنها الحلّ لجعل الجزائر تطوي التجارب السابقة في مجال الاستثمار.
وبالنظر إلى أن الواقع في الجزائر أثبت مرات عديدة أن مشكلة الاقتصاد ليست في التشريع رغم أهميته، بل في التنفيذ، يتساءل المتابعون في البلاد حول مدى مرونة موادّ قانون الاستثمار الجديد وقدرتها على تحويل المضامين النظرية إلى مشاريع اقتصادية ميدانية منتجة للثروة وموفرة لمناصب الشغل.
تنويع الاقتصاد
في 19 مايو/آيار الجاري، عقد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لأول مرة اجتماعاً لمجلس الوزراء في يوم الخميس بدلاً من الأحد الذي تُعقَد فيه لقاءات مجلس الوزراء دورياً، وهو الاجتماع الذي وصفه بيان الرئاسة الجزائرية بـ"الاجتماع الخاصّ" الذي خُصّص لدراسة مشروع القانون الجديد للاستثمار.
وحسب الرئاسة الجزائرية، فإن قانون الاستثمار الجديد يهدف إلى تحسين مناخ الأعمال، وتوفير الظروف المناسبة، لتحرير روح المبادرة وتنويع الاقتصاد الوطني، ضمن رؤية شاملة ومستقرَّة.
وتقول الرئاسة الجزائرية إن هذا القانون سيسمح بتكريس مبادئ حرية الاستثمار والشفافية والمساواة، وإعادة تنظيم الإطار المؤسساتي المتعلق بالاستثمار، ومحاربة البيروقراطية، عبر رقمنة الإجراءات المتصلة بعملية الاستثمار عن طريق استحداث المنصة الرقمية للمستثمر، والتسليم الفوري لشهادة تسجيل المشروع الاستثماري، وتوسيع نطاق ضمان تحويل المبالغ المستثمرة والعائدات الناجمة عنها، إلى المستثمرين غير المقيمين.
وقال الخبير الاقتصادي إسحاق خرشي لـTRT عربي إن مشروع قانون الاستثمار الجديد حمل ثلاث مقاربات، الأولى تنظيمية تتمثل في إحداث عدة تغييرات، منها تحويل الوكالة الوطنية لدعم الاستثمار إلى الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار ليكون لها بذلك بعد ترويجي، كما أُلحِقَت بسلطة الوزير الأول بدلاً من وزير الصناعة، لأن الأنشطة الصناعية ترتبط بعدة قطاعات، وبالتالي فإن وضعها تحت إشراف الوزير الأول سيمكّن من اتخاذ القرارات بسرعة بلا رجوع إلى باقي القطاعات والاصطدام بجملة من العراقيل، إضافة إلى استحداث شباك وحيد على مستوى كل ولاية، وآخر ذي اختصاص وطني للمشاريع الكبرى والاستثمارات الأجنبية.
وأشار خرشي إلى أن المقاربة الثانية قانونية تتمثل في تسليط أقصى العقوبات على كل من يعرقل إنجاز المشاريع الاستثمارية، إضافة إلى تنصيب لجنة تابعة لرئاسة الجمهورية تتلقى شكاوى المستثمرين لحلّ العراقيل التي قد تواجههم، مضيفاً أن المقاربة الثالثة ضريبية، وتظهر من خلال المزايا الجبائية التي يتضمنها القانون كالإعفاء من الضريبة على أرباح الشركات لمدة تتراوح من 3 إلى 20 سنة حسب طبيعة المشروع، إضافة إلى الإعفاء من الضريبة على القيمة المضافة، وتأجيل دفع الضريبة للمستثمرين.
قطيعة مع الماضي
تشهد الجزائر منذ حراك 19 فبراير/شباط 2019 محاكمات متوالية لرجال الأعمال المتهمين بقضايا فساد، ويتساءل البعض إن كان قانون الاستثمار الجديد سيضع حدّاً للفساد المالي، والجواب يقدّمه الخبير الاستثماري عبد القادر سليماني الذي يستبعد تكرار تلك الممارسات.
وقال سليماني لـTRT عربي إن الجزائر تعيش مرحلة جديدة لا يمكن أن يكون فيها مكان للمال الفاسد، بالنظر إلى أن تلك الممارسات السابقة قد ولّت.
وأوضح سليماني أن المحاكمات التي تجري اليوم أصبحت رادعاً لكل من تسوّل له نفسه تنفيذ ممارسات غير قانونية باسم الاستثمار والاقتصاد.
ويعتقد سليماني أن قانون الاستثمار الجديد جاء برسالة واضحة مفادها أن الجزائر بحاجة إلى رجال أعمال لا إلى رجال مال، بعيداً عن الروح الاتكالية على خزينة الدولة، وفق فضاء يسمح بالشراكة بين القطاعَين الخاصّ والعامّ ومع المستثمر الأجنبي الذي يمكن أن يقدم قيمة مضافة ضمن مناخ اقتصادي عنوانه الشفافية والنزاهة.
وكان الرئيس عبد المجيد تبون شدّد خلال اجتماع مجلس الوزراء على ضرورة "تعزيز النظام القانوني لحماية المستثمرين من التعسفات البيروقراطية عبر استحداث آلية مستقلة رفيعة المستوى، تضمّ قضاة وخبراء اقتصاديين وماليين، توضع لدى رئاسة الجمهورية، وتتولى الفصل في الشكاوى والطعون المقدمة من المستثمرين".
وأمر تبون بـ"التخلي عن مظاهر التسلط والسيطرة في معالجة ملفات المستثمرين، وتقليص آجال دراستها إلى أقل من شهر، مع اعتماد المعايير الدولية في استقطاب الاستثمارات، وبالتركيز على السرعة والنجاعة والديمومة".
بدوره يعتقد الدكتور إسحاق خرشي أن الجزائر تعيش عهداً جديداً لا يمكن مقارنته بفترة سابقة، بخاصة أن قانون الاستثمار الجديد يحمل آليات مرنة تسهّل تنفيذه، بتخلّيه عن مركزية القرارات في منح رخص الاستثمار.
قطب اقتصادي؟
يعتقد الخبير الاستثماري عبد القادر سليماني أن قانون الاستثمار الجديد سيكون له مهمة أساسية تتمثل في أن يكون مناخ الأعمال في الجزائر مستقطِباً وجاذباً للاستثمارات الأجنبية، بخاصة خارج قطاع الطاقة، وذلك بتحرير حركة رؤوس الأموال من وإلى داخل الجزائر، ومحاربة كل أشكال البيروقراطية، والعمل على الاستفادة من الفضاءات الاقتصادية التي توفّرها مناطق التجارة الحرة، وفي مقدمتها المنطقة الإفريقية الحرة للتبادل التجاري.
وعبّر عديد المسؤولين الجزائريين في مقدمتهم الرئيس تبون عن ضرورة الاستفادة من هذه الاتفاقيات التجارة الحرة، بدعوته إلى إعادة النظر في اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وتحضير البنية التحتية للاستفادة من منطقة التبادل الإفريقية عبر مشاريع متعددة كالطريق العابر للصحراء الذي يربط بين ست دول إفريقية وأنبوب الغاز العابر للصحراء الرابط بين نيجيريا والجزائر مروراً بالنيجر والمتجه نحو أوروبا، ومشاريع السكك الحديدية نحو الجنوب ثم النيجر، إضافة إلى ميناء الحمدانية بولاية تيبازة المطل على البحر الأبيض المتوسط.
وأوضح عبد القادر سليماني لـTRT عربي أن الجزائر ستعتمد لتحقيق هدفها، بالتحول إلى قطب اقتصادي إقليمي في المنطقة الإفريقية والعربية، على بناء شراكات منتجة، ضارباً في ذلك مثالاً بالتعاون الاقتصادي مع تركيا الذي سمح بتصدير مليار دولار في قطاع الحديد والصلب فقط عبر مصنع توسيالي.
وأثمرت هذه الشراكة المتزايدة بإعلان شركة بتال القابضة التركية إحدى أكبر المجموعات التركية المتخصصة في إنتاج المستحضرات الصيدلانية في 24 مايو الجاري أي بعد أسبوع فقط من زيارة الرئيس تبون أنقرة، الشروع في بناء أحد أكبر مصانع إنتاج الأمصال في الجزائر، باستثمار بلغت قيمته 50 مليون دولار.
ويشير سليماني إلى أن هذه الشراكة تخصّ قطاعات أخرى ذات أولوية كقطاع الطاقة الذي تصرّ الجزائر على أن تبقى فيه مموّناً موثوقاً به من خلال العمل على الوصول إلى تصدير 90 مليار متر مكعَّب نحو أوروبا، وتصدير الهيدروجين والكهرباء عبر بوابة إيطاليا، إضافة إلى الشراكة في مجال الحديد مع الصينيين في غار جبيلات جنوبي الجزائر، وكذا قطاع الصناعات الصيدلانية والتعدين كالفوسفات الذي يشكّل أولوية للحكومة حالياً.
وبيّن أن الشراكة مع الأجانب في هذه المجالات تصبّ في أن تصبح الجزائر بلداً منتجاً ومُصدِّراً في المنطقة.
وحسب الرئاسة الجزائرية، فإن قانون الاستثمار الجديد يهدف إلى "استحداث أنظمة تحفيزية للاستثمار في القطاعات ذات الأولوية، والمناطق التي توليها الدولة اهتماماً خاصّاً، من أجل ضمان توجيه أفضل للمزايا الممنوحة للاستثمار".
لكن الدكتور إسحاق خرشي يوضح أن "قانون الاستثمار إحدى الأدوات المهمة في تحسين مناخ الأعمال في الجزائر، لكن تحقيق هدف التحول إلى قطب اقتصادي في المنطقة العربية والإفريقية يحتاج إلى أكثر من ذلك، لأن الأمر يتعلق بالمنظومة الكلية لمناخ الأعمال، التي تتطلب إنتاجاً وطنياً حقيقياً، وتوفر روح المبادرة لدى الولاة والشجاعة لدى رجال الأعمال والرقمنة والتغير في ذهنيات الإدارة، إضافة إلى تنويع الاقتصاد الجزائري خارج المحروقات وتحديد الأولويات الأساسية للجزائر بدقة".
أما الخبير الاستثماري عبد القادر سليماني، فيرى أن الوصول إلى كل هذه الأهداف محوره ترقية قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والوصول إلى إنشاء مليون مؤسسة منتجة ضمن هذا الإطار تكون قادرة على تلبية الحاجات الوطنية وعلى المنافسة الخارجية.