لا تفتأ الولايات المتحدة الأمريكية تحذّر الدول النامية ومن بينها عديد من الدول العربية، من "فخ الديون الصينية"، فيما تنفي بكين ذلك، وتعتبرها قصة اختلقها مَن لا يريدون لهذه الدول أن تتطور.
ترى الصين في القروض التي تقدّمها للدول العربية "مصلحة متبادَلة"، لكن الخطر يكمن في وصول هذه الدول إلى مرحلة تجد نفسها فيها غارقة في هذه الديون وعاجزة عن السداد.
هذه الفرضية قد تجبر الدول المدينة في مرحلة ما على التخلي عن بعض أصولها للشركات الدائنة، أو تغيير مواقفها الدبلوماسية من قضايا معينة، استجابة للضغوط الصينية، بل قد تفتح المجال لبكين لإقامة قواعد عسكرية.
فخ الديون الصينية لا يختلف عن فخ الديون الأمريكية والأوروبية، إنه أشبه بـ"نسخة من استعمار جديد" على حد قول رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد.
والجمعة حذّر المستشار الألماني أولاف شولتس، من أن القروض التي تمنحها الصين منذ سنوات لبلدان فقيرة، خصوصاً في إفريقيا، تشكّل "خطراً جدِّياً" يمكن أن يغرق العالم في أزمة مالية جديدة.
وقال شولتس: "يوجد حقاً خطر جدي" من أن تنجم أزمة مالية في "دول الجنوب عن قروض منحتها الصين عالمياً دون أن تتمتع باطّلاع شامل عليها لكثرة الجهات الضالعة فيها".
لكن لماذا تلجأ الدول العربية إلى الاستدانة "الكثيفة" من الصين رغم المخاطر التي قد يحملها ذلك؟ ولماذا تنفق بكين مليارات الدولارات على مشاريع في دول عربية قد لا يتمكّن بعضها من سدادها؟
منفعة متبادَلة؟
تحتاج الدول العربية كغيرها من الدول إلى قروض وتمويلات لمشاريعها، بخاصة المتعلقة بالبنية التحتية أو الفوقية من طرق وسكك حديدية وموانٍ وسدود ومساكن ومستشفيات ومدارس، بل وحتى لتمويل عجز الحساب الجاري.
وارتفعت الحاجة إلى السيولة النقدية، بخاصة من جانب الدول العربية غير النفطية، خلال جائحة كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية، للإيفاء بالتزاماتها.
وبالنظر إلى صعوبة الحصول على قروض من المؤسسات المالية الدولية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وشروطهما المعقدة، تصبح الصين أحد الخيارات المفضلة للحكومات العربية، بخاصة أنها لا تفرض شروطاً متعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
في المقابل، تستفيد الصين من تشغيل فوائضها المالية الضخمة عبر قروض تفوق نسبة الفائدة فيها أحياناً تلك التي تشترطها المؤسسات الدولية.
تستهدف القروض الصينية بالدرجة الأولى البنية التحتية في الدول العربية، بخاصة المواني والطرقات والسكك الحديدية، التي تمكّنها من تهيئة خطوط النقل والإمداد ضمن مبادرة الحزام والطريق، بالشكل الذي يضمن لها وصولاً دائماً إلى الطاقة وغزو سلعها الأسواق العربية.
وتتولى الشركات الصينية للمقاولات كثيراً من المشاريع في الدول العربية التي تموّلها بنوك صينية، مما يُدِرُّ عليها عوائد مالية هامة.
إذ ساهمت سياسة القروض والتمويل في ارتفاع عدد شركات المقاولات الصينية من 9 شركات بين أكبر 100 مقاول عالمي في عام 2000، إلى 27 شركة في 2020.
فيما لدى أوروبا 37 شركة، بانخفاض من 41 شركة، ولدى الولايات المتحدة 7، مقارنة بـ19 قبل عشرين عاماً.
الأمر الآخر أن الصين تستهدف بقاء عملتها المحلية (اليوان) ضعيفة، بالشكل الذي يُبقِي سلعها رخيصة وتنافسية مقارنة بالسلع الأمريكية والأوروبية الغالية.
بشكل أوضح، تحقّق الصين فوائض مالية ضخمة من تجارتها الخارجية، وسيؤدِّي دخول مئات مليارات الدولارات السوق الصينية سنوياً إلى ارتفاع سعر اليوان أمام الدولار.
لذلك تُبقي الصين جزءاً من هذه الفوائض المالية سندات لدى الخزينة الأمريكية بقيمة 1.1 تريليون دولار وفق بيانات الخزانة الأمريكية، في شكل احتياطات صرف.
كما تُقرِض عديداً من دول العالم، بما فيها العربية، مليارات الدولارات، مما يسمح باستقرار عملتها وعدم ارتفاعها بما يُضعِف تنافسية سلعها.
جيبوتي.. الحلقة الأضعف
ورغم نفي الصين استيلائها على أصول أي دولة في العالم بسبب تعسُّرها في سداد ديونها، فكثيراً ما يتردّد اسم ميناء هامبانتوتا جنوبي سريلانكا، الذي استحوذت شركة صينية على 70 بالمئة من أسهمه لمدة 99 عاماً، مثالاً على رغبة بكين في الاستحواذ على أصول الدول بعد إغراقها في الديون.
سريلانكا ليست المثال الوحيد، فأيضاً زامبيا فشلت في دفع قيمة "محطة التوليد المائية" التي أنشأتها الصين، فاستحوذت عليها وعلى 60 بالمئة من أسهم إذاعة زامبيا الحكومية.
وفي كينيا تعسرت الحكومة في دفع قرض أنفقته في بناء خط للسكك الحديدية، بما قد يدفعها إلى التخلي عن بعض أصولها.
وتُعَدّ جيبوتي أكثر الدول العربية والإفريقية انكشافاً أمام الديون الصينية، فوفق تقديرات "معهد التنمية الخارجية"، ومقره لندن، تمثّل القروض الصينية 70 بالمئة من الديون الخارجية لجيبوتي.
فيما تَوقَّع تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية في 2018 أن تبلغ ديون جيبوتي 88 بالمئة من ناتجها الإجمالي، الذي بلغ في نفس العام أقلّ من 3 مليارات دولار، بما يعرّض البلاد لتسليم جزء من أصولها للصين ما لم تقدر على السداد.
جيبوتي لا تملك موارد طاقة تستحقّ الذكر، تمكّنها من تطوير اقتصادها، لذلك تستغلّ موقعها الاستراتيجي على مضيق باب المندب في تأجير قواعد عسكرية لفرنسا والولايات المتحدة والصين، لدعم اقتصادها المتواضع.
هذه الديون مكّنَت الصين من بناء أول قاعدة عسكرية لها خارج أ راضيها، وإدارة ميناء دوراليه، وتشييد سكة حديدية وعديد من المشاريع الأخرى، مما يجعل جيبوتي في موقع هشّ أمام تعاظم النفوذ الصيني الذي يقلق واشنطن.
ضغوط وشبهات
وعلى غرار جيبوتي، يُعَدّ السودان من الدول العربية التي تورطت في الديون الصينية السهلة البالغة 10 مليارات دولار من إجمالي 60 مليار دولار.
وأدّى تعثُّر الخرطوم في سداد هذه الديون، إلى ضغوط صينية تمثّلت في وقف أو تجميد مشاريعها في البلاد، وعدم تقديم مزيد من المنح والقروض.
وفي الجزائر استغلت الصين الأزمة الاقتصادية الناتجة عن تراجع أسعار النفط والغاز، وسعت لتمويل مشروع تشييد أكبر ميناء تجاري في إفريقيا بمنطقة شرشال ( 100 كم غرب الجزائر العاصمة).
ورغم أن الجزائر تمكّنَت من سداد جميع ديونها قبل 2013، وتبنّت سياسة عدم الاقتراض بعد تجربة مريرة مع صندوق النقد الدولي في التسعينيات أدت إلى إغلاق آلاف المؤسسات الحكومية وطرد نحو 400 ألف عامل، فإن الصين أقنعتها في 2016 بتمويل كامل لمشروع ميناء الحمدانية بشرشال بقرض قيمته 3.3 مليار دولار، على أن تتولى شركة صينية إدارته.
لكن المشروع أُثيرَ حوله بعض الشبهات مما أدى إلى تجميده بعد الحراك الذي أطاح بالرئيس بوتفليقة ورجاله (1999-2019)، وأُعيدَ بعث المشروع عام 2020 في عهد الرئيس الحالي عبد المجيد تبون، الذي اشترط الشفافية.
إذ تتبنى الجزائر سياسة الشراكة مع الصين وفق قاعدة "51/49" بدل ترك الشركات الصينية تستحوذ وحدها على مشاريع بتمويل بنوك صينية.
وهو نفس الأمر بالنسبة إلى مشاريع الفوسفات في شرقيّ البلاد، والحديد الخام في الجنوب الغربي، الذي اتُّفق على استغلاله وفق قاعدة 51 بالمئة للشريك الجزائري و49 بالمئة للشريك الصيني.
لكن الوفرة المالية التي تمتلكها الجزائر سواء بعد ارتفاع أسعار النفط والغاز أو من خلال احتياطيات العملة الصعبة، لا تتوفر في بلدان عربية أخرى مثل موريتانيا، التي تُعَدّ أيضاً من البلدان المنكشفة على القروض الصينية، وإن استفادت في 2021 و2022 بإلغاء بعض ديونها المستحقة.