في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري فتحت السلطات المصرية معبر رفح لمرور حاملي الجنسيات المزدوجة من قطاع غزة إلى مصر بعد 26 يوماً من القصف المستمر من قبل الاحتلال الإسرائيلي على القطاع، فيما بدأت المستشفيات المصرية في اليوم ذاته استقبال المصابين لتلقي العلاج.
مئات الفلسطينيين وصلوا إلى معبر رفح المصري بدايةً من 9 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في محاولة للعودة إلى قطاع غزة، بينهم من استقر بأسرته في مصر منذ سنوات للعمل، وآخر جاء لتلقي الرعاية الطبية قبل "طوفان الأقصى"، وثالث عائداً من رحلة سفر كانت مصر محطة الانتقال بين سفره وعودته إلى غزة.
الحكومة المصرية رفضت السماح للفلسطينيين بالمرور من بوابات المعبر ودخولهم في الأوضاع الخطرة التي يعيشها القطاع حالياً، وخصصت وحدات سكنية في مدينة العريش الواقعة في شمال سيناء، ووفرت مستلزمات الإعاشة من وجبات طعام وأدوية، فيما يحاول الهلال الأحمر مساعدتهم للتواصل مع عائلاتهم في غزة، لكن ذلك لم يُهدئ من روعهم حيال من تبقى من عائلاتهم، فرغبتهم في العبور إلى غزة تتزايد بتصاعد القصف.
العودة رغم القصف
أبو مصعب الذي يعيش منذ 8 سنوات في مصر، استقر وأسرته في مدينة الغردقة حيث يعمل، لم تفارقه فكرة عودته إلى وطنه الأم لحظة واحدة، لكن العدوان أجبره على اتخاذ قرار مفاجيء بالعودة فوراً حتى وإنْ كان تحت القصف.
ويُعرف أبو مصعب نفسه في حديثه مع TRT عربي، بأن "اسمه فلسطيني من غزة، وعمره 8 سنوات خارجها، ومهنته الرجوع إليها".
منذ اليوم الأول للحرب، اتخذ قراره الذي لاقى ترحيباً من زوجته وأطفاله، فما يشاهده من مخطط للتهجير في ظل صمت العالم وموافقته على جرائم الاحتلال وبقاء عائلته في حي الزيتون، دفعه إلى العودة فتوجه إلى معبر رفح في 9 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وإنْ كان ذلك يعني استشهاده.
قرّر جزء من عائلته البقاء في حي الزيتون، بينما الآخرون بين الترحال والعودة مرة أخرى في محاولة لحماية أنفسهم وتمسكاً بالأرض، ويوضح أبو مصعب أنه لم يبذل جهداً مع أطفاله في قرار العودة، فهم يعلمون جيداً مدى الارتباط بالأرض وواجب الدفاع عنها.
ورغم نصيحة الجميع له من أهله في غزة بالبقاء في مصر لحين انتهاء الحرب، ولكن فقدانه لـ39 شخصاً من عائلته في الحرب كان بينهم 32 في مجرزة المستشفى المعمداني وحدها، جعله أكثر إصراراً على التواجد هناك.
"على غزة يا بابا بدي أطخ اليهود"، كان رد الابن الأصغر مالك -5 سنوات- حين سأله والده عن وجهتهم وماذا يريد أن يفعل هناك، ويبيّن أبو مصعب أن شعور أسرته تراوح بين الفرح فور اتخاذ القرار والقلق مع احتدام المعارك والمجازر، إلا أن ذلك لم يُغير شيئاً من موقفهم.
كله فداء لفلسطين
تزامن موعد عودة أم عبد الله من زيارتها لابنتها الطالبة في إحدى الجامعات التركية بعد انتهاء مدة الإقامة مع بدء قصف الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة، اضطرت إلى العودة على طائرة في 8 أكتوبر/تشرين الأول في محاولة للوصول إلى معبر رفح والمرور إلى غزة حيث تركت زوجها وأبناءها الأربعة، قضت ليلة كاملة في السيارة وأخبرتها السلطات المصرية حينها بغلق المعبر حماية لها وغيرها من الفلسطينيين العالقين هناك.
البقاء ليومين أو ثلاثة على الأكثر في العريش قبل السماح بالعبور للجانب الفلسطيني أمل تعيش عليه أم عبد الله وجاراتها الفلسطينيات حتى اليوم بعد مرور شهر على بقائهم، أنفقت خلاله ما تبقى من أموال.
تقول لـTRT عربي، إنها اضطرت في الأسبوع الأول إلى المكوث في فندق كانت تدفع فيه نصف تكلفة الإقامة، ثم تكفل الهلال الأحمر بالنفقات، ووفرت لهم الحكومة المصرية بيوتاً للإقامة، موضحة أن كل ما تطلبه تجده وتوفره لها السلطات المصرية، لكن ذلك لا يعوض تشتت أسرتها وبُعدها عن أولادها.
ينقسم قلبها المريض بين تركيا حيث ابنتها الوحيدة تعيش، وغزة موطنها الأم ومكان معيشة أولادها الأربعة وزوجها، تلفت أم عبد الله إلى أنها لم تتمكن من البقاء مع ابنتها، أو الوصول إلى أبنائها والاطمئنان عليهم.
وتبيّن أن عائلتها نزحت من شمال القطاع إلى جنوبه واستقرت في إحدى المدارس المفتوحة للاجئين، "في طريقهم عاشوا لحظات من الرعب حين قصف جيش الاحتلال شاحنة على الطريق"، وصفت لها ابنتها الصغرى ما حدث، فوسط ما شاهدوه من أشلاء ودماء في كل مكان "شعرت وكأن شيئاً ما غلّف سيارتهم فلم يُصبها شيء"، لكنها عجزت عن تحريك ذراعها من شدة الخوف.
مع استمرار القصف، قررت عائلتها النزوح إلى رفح، فانتقلت ابنتاها (22 سنة و15 سنة) للبقاء مع أسرة خالهم، بينما انتقل أحد الأبناء إلى منزل صديق له واستقر الآخر في منطقة خطرة مُعرضة للقصف يومياً.
وتضيف أم عبد الله أنها تقضي يومها بالبحث على الإنترنت وفي القنوات الإخبارية عن خبر قصف هذه المنطقة، مردفة بالقول: "نفسي أحضن ابنتي الصغيرة وأطبطب عليها، هي لا تتحمل الضغط النفسي"، وأنها لا تطلب من الله سوى أن يُثبت قلبها على ذكره في حالة أصابهم مكروه.
وترفض أم عبد الله فكرة التهجير والابتعاد عن غزة رغم القصف، وتوضح أن منزلها الواقع في شمال القطاع اشترته وزوجها منذ عامين فقط، إلا أنها لن تحزن عليه فهو فداء لفلسطين، مضيفة أن ما يحدث في غزة يؤلمها، فقلبها لم ينشغل بالدعاء لأولادها فقط، بل بأن يحفظ الله غزة وأهلها، فكلما رأت طفلة شهيدة شعرت وكأنها ابنتها، وفق تعبيرها.
لم يدخل الطعام لأم عبد الله طوال الشهر الماضي، مع كل لقمة تسأل نفسها كيف قضى أولادها يومهم؟ هل حصلوا على طعام؟ وتقول إن ابنتها الصغرى طلبت منها أن تحضر 3 أكياس من الخبز حين أخبرتها أنها ستعود إلى غزة فور فتح المعبر.
وتتساءل: "بين مصر وغزة ربع ساعة فقط، فكيف تصل المساعدات بعد 3 أسابيع من بدء الحرب؟"، مضيفة أنهم يحمدون الله رغم صعوبة ما يحدث، لشعورهم بأن ذلك أول طريق التحرير الذي وعد به الله.
لم تكن أم عبد الله تعلم بقرار الحكومة التركية بالسماح للفلسطينيين الموجودين فيها بالبقاء، فوصلت إلى مصر قبل علمها بذلك، بينما تعيش على أحد الأملَين، إما تنتهي الحرب ويُسمح لها بالمرور لرؤية أولادها، أو السفر لتركيا لمساندة ابنتها الوحيدة في هذه الظروف القاسية، مشيرةً إلى أن ابنتها أخبرتها في تركيا بأن هناك من يسعى لإعادة والدتها لتكون بصحبتها حتى انتهاء العدوان.
إلى أين الرحيل؟
أم محمد وصلت إلى مصر في 27 سبتمبر/أيلول الماضي بصحبة زوجها لإجراء عملية جراحية في الكلى، تركت أولادها الأربعة وزوجتين لاثنين منهم وحفيدة في غزة، خرج زوجها من العمليات وأنهى فترة النقاهة فتوجهوا إلى معبر رفح يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول، حينها كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد قصفت المعبر من الجانب الفلسطيني ومنعت السلطات المصرية خروج العالقين لحمايتهم.
تعيش أم محمد، التي فقدت 50 فرداً من عائلتها، في خوف كلما سمعت القصف المستمر على القطاع، مضيفةً بأنها ترغب في العودة إلى بيتها وأولادها الآن، فلا تتحمل البقاء بعيداً عنهم في ظل ما يعانونه.
وتقول أم محمد لـTRT عربي، إن الإنترنت هي الوسيلة الوحيدة للتواصل مع أبنائها الأربعة أكبرهم في سن 25 وأصغرهم 17 سنة، "قدر الله لهم البقاء سوياً في منزل أحد أصدقائهم".
وتعبر عن ألمها بالقول: "والله دمرونا (الاحتلال)، أكثر من نصف (سكان) غزة استشهدوا، حسبي الله ونعم الوكيل"، رافضة ما يردده الاحتلال من فكرة تهجير أهل غزة.
وتتساءل أم محمد: "أين نذهب وبيوتنا وأعمالنا وأولادنا هناك؟"، مطالبة أن يسعى الجميع إلى إيقاف الحرب قبل السعي لفتح المعبر.
التمسك بالأرض
في اليوم التالي للعملية العسكرية لكتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس طوفان الأقصى، وصل رفعت خليل قنن في الموعد المحدد لتلقي العلاج، تاركاً خلفه زوجته وابنته الرضيعة، لكنه لم يكن يتوقع حينها أن يتطور الأمر إلى ما عليه الآن.
وحاول قنن المرور من معبر رفح والعودة إلى أسرته، لكن الاحتلال كان قد بدأ بقصفه من الجانب الفلسطيني، إلا أن سعيه لم يتوقف لحظة واحدة حتى تواصل مع الهلال الأحمر طالباً تسهيل المرور.
وفي حديثه مع TRT عربي، يصف قنن مصر بأنها بلده الثاني، ويقول رغم أن السلطات المصرية توفر كل ما يحتاجون إليه، فإنه يرغب في العودة إلى بلده وأسرته، فوجوده معهم -حتى تحت القصف- أمر لا بديل عنه.
ويضيف أن ابنته ذات الـ8 أشهر جاءت إلى الدنيا بعد محاولاته للإنجاب طوال 9 سنوات زواج، وأنه يعيش في قلق دائم لابتعاده عن أسرته وتعرضهم للخطر طوال الوقت.
يتواصل خليل مع أسرته الموجودة في مدينة خانيونس جنوب غزة يومياً كل ساعة تقريباً في حال توفر الإنترنت، ويوضح أن هذا هو الشيء الوحيد الذي يُهدّئ من روعه، فليلة انقطاع الإنترنت عن القطاع للمرة الأولى شعر وكأنه مصعوق، ولم يذق جفنه النوم طوال الليل، ولم يتوقف عقله عن التفكير في احتمالات إصابتهم بمكروه حتى عاد الإنترنت وتواصل معهم مرة أخرى.
وأضاف أنه رغم دعواته بانتهاء الحرب لكنه يريد العودة إلى أسرته، ولو استمر القصف، فالوجود معهم أفضل من أي شيء والشهادة بيد الله وحده، قائلاً إنه من شدة القلق فكر في جلبهم إلى مصر، لكن الخروج من غزة يعني بيعاً للقضية الفلسطينية والوجود فيها هو الحل لحماية الأرض والتخلص من الاحتلال.
أمل العودة إلى غزة
إلى ذلك، يعاني الطبيب محمد أبو ديّة من أمراض مزمنة، أصيب بكسر في الفخذ الأيمن، فحضر إلى مصر يوم 27 سبتمبر/أيلول في صحبة زوجته لتلقي العلاج، وترك أولاده في غزة فلم يكن يعلم أن الاحتلال سيكرر عدوانه على القطاع.
ويقول أبو ديّة لـTRT عربي، إنه لن يتمكن من العودة مع تواصل القصف، فسنه 77 عاماً وتكالب المرض عليه، إذ يعاني من الضغط والقلب وجلطة وأمراض جلدية، فضلاً عن الكسر الأخير الذي يعيقه عن الحركة والتنقل من منطقة إلى أخرى.
ويتواصل الطبيب الفلسطيني مع أبنائه عن طريق الإنترنت، مواجهاً صعوبة شديدة في الوصول إليهم، فلا يعرف عنهم شيئاً منذ أسبوعين تقريباً، ولا يعرف مكان وجودهم الآن.
ويلفت أبو ديّة إلى أنه لن يترك أرضه في غزة، ووجوده في مصر لفترة مؤقتة لحين توقف العدوان وانتهاء الحرب، مضيفاً أنه يشعر بالأمان في مصر ويتلقى الرعاية الطبية اللازمة، كما أن وجوده في مصر يعطيه الأمل في العودة إلى غزة ولقاء أهله مرة أخرى.