وقبل بدء العدوان الإسرائيلي على غزة كانت مستشفيات القطاع تعاني بالأساس نقصاً في الأدوية وبنوك الدم، نتيجة الحصار الدائم الذي يعيش فيه القطاع، إذ كانت نسبة العجز في لوازم المختبرات وبنوك الدم 60%، بينما بلغ العجز في الأدوية 44% و32% في المستهلكات الطبية.
وسبق أن حذرت وزارة الصحة في غزة، ولأكثر من مرة ليس فقط خلال الأيام الماضية، بل ومنذ الأسابيع الأولى من الحرب، من وجود نقص كبير في وحدات الدم بخاصة في مناطق شمال القطاع، في ظل ازدياد عدد جرحى الغارات الإسرائيلية المتواصلة على القطاع.
وفي تصريحات سابقة بعد الحرب بنحو شهر، قالت مديرة دائرة المختبر بمجمع ناصر الطبي في خان يونس، الدكتورة صوفيا زعرب إن "ما صُرف من وحدات الدم خلال ذلك الشهر لم يُصرف خلال عام في الأيام العادية".
سوء التغذية وتأثيرها على التبرع بالدم
يعاني آلاف من سكان قطاع غزة في مخيمات النزوح من فقر الدم نتيجة سوء التغذية إثر الحصار والمجاعة، إذ أعيت الحرب الإسرائيلية في خلال ما يقرب من السنة، أجساد الغزيين الأصحاء، ناهيك عن من كانوا مرضى بالأساس فتضاعفت آلامهم مرضاً وجوعاً.
دفع ذلك الوضع القاسي المواطنين الذين يعانون بدرجة أقل، للتبرع بالدم من أجل إنقاذ المصابين والمرضى. ومن أجل سد عجز وحدات الدم، جاء المواطن حامد الدلو متبرعاً لأحد أقاربه الذي أصيب قبل أسبوع، إلى مستشفى المعمداني حيث التقته TRT عربي، رغم أنه تبرع تقريباً قبل 3 أشهر لإخوته المصابين، ما قد يمثل ضرراً على صحته، إذ يوصى المختصون أن تكون المدة الفاصلة بين تبرع وآخر من 4 إلى 6 أشهر، لا سيما مع سوء التغذية الذي يعاني منه حامد كحال جميع مواطني القطاع.
وبينما قد يضطر الأطباء لبعض الاستثناءات من أجل سد العجز وإنقاذ روح بما لا يؤثر على أخرى، لكن في بعض الأحيان قد يردون المتبرع خوفاً عليه من المضاعفات، بخاصة إذا كانت سيدة أو من أصحاب الأمراض المزمنة، إذ منع الأطباء المواطنة بسمة البسوس، والتي جاءت إلى مستشفى المعمداني للتبرع بالدم لأخيها المصاب، فكمية الدم في جسد السيدات أقل منها عند الرجال، بالإضافة إلى الضعف العام نتيجة اختلافها الفسيولوجي عن الرجل، من حيث الحمل والولادة والرضاعة والدورة الشهرية، بالإضافة إلى الضعف الناجم عن ظروف الحرب والمجاعة، ومعاناة بسمة من مرض مزمن وهو السكري، وهو سبب كافٍ لعدم التبرع بالدم.
وفي ظل تلك الظروف الصحية التي تعانيها بسمة، يحتاج أخوها إلى الدم وهي غير قادرة على تلبية هذا الاحتياج، وبقية المتبرعين إما تبرعوا من مدة قريبة للغاية أو يعانون هم أيضاً بسبب سوء التغذية، ووحدات الدم الموجودة بالمشفى من المتبرعين بالكاد تكفي العدد الكبير من الإصابات، وبعد رفض الأطباء تبرع بسمة لأخيها بالدم، قالت لـTRT عربي، إنها تحاول أن تلجأ إلى الأقارب والمعارف والأصدقاء لتوفير كميات الدم المطلوبة وما زالت تبحث عن متبرع مناسب.
وفي الأوضاع الطبيعية، يحتاج المتبرع إلى تغذية خاصة بعد عملية التبرع بالدم، لكن في ظل الظروف التي يعيشها أهل القطاع تقول بسمة إنهم يكتفون بالمياه "لأن حتى الطعام الطبيعي، وليس الغذاء الذي يساعد على زيادة كريات الدم الحمراء، غير موجود، فنضطر إلى أن نعوضه بقليل من المياه أو السوائل البسيطة جداً، إذ لا يوجد أي شيء فعلياً نطعمه للمتبرع ولا حتى فاكهة تُعصر".
الأمراض الأكثر تأثراً من نقص وحدات الدم
إلى جانب المعاناة المستمرة للمصابين جراء نقص وحدات الدم في المستشفيات، يعاني أيضاً أصحاب أمراض الدم والأمراض الوراثية والمزمنة، مثل مرضى الكلى والثلاسيميا الذين يحتاجون إلى نقل دم بشكل دوري، إذ يعيشون معاناة مضاعفة، تفاقم آلامهم وتهدد حياتهم وسط ظروف إنسانية قاسية.
والثلاسيميا هو اضطراب دم وراثي يؤدي إلى انخفاض نسبة الهيموغلوبين في الجسم عن المعدل الطبيعي.، وتمثل عمليات نقل الدم والطعام المغذي أمراً حيوياً لبقائهم على قيد الحياة، وكلما كانت نوعية طعامهم أفضل، طالت الفترة بين عمليات نقل الدم، ونتيجة للحرب التي أدت إلى نقص الرعاية الطبية وندرة الغذاء في قطاع غزة، يعد الوضع الحالي حكماً محتملاً بالموت بالنسبة إليهم.
وفي إحصائية قبل 4 أشهر، كشف المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عن أن 305 مرضى يعانون من الثلاسيميا، منهم 80 طفلاً حول القطاع، توفي منهم 18 مريضاً منذ بداية العدوان الحالي، فيما يصارع نحو 10 مرضى الموت بعد تدهور حالتهم الصحية.
وفي أثناء وجود TRT عربي في مستشفى المعمداني التقت الطفلة نغم شادي ( 17 عاماً) وهي مريضة ثلاسيميا، اصطحبتها والدتها إلى المشفى لعلها تتحصل على بعض الدم، إذ تحتاج نغم إلى عملية نقل دم كل أسبوعين أو عشرة أيام، وفي حالة عدم توفره تعاني من مضاعفات تتمثل في الدوار الشديد بشكل مستمر وانتفاخ في أطرافها وينتهي بها الأمر لعدم القدرة على الحركة.
وفي ظل المجاعة لا تستطيع نغم، التي تتمثل أمنيتها الوحيدة في الحصول على دم كي تكمل حياتها، أن تأخذ حصتها اللازمة من البروتينات كاللحوم والدجاج والبيض والحليب، ما يفاقم من وضعها الصحي ويجعلها في حاجة إلى الدم في فترة أقل من الطبيعي.
وبجانب نغم كانت تجلس أمها نجلاء جندي (37 عاماً) التي اعتادت الذهاب إلى المعمداني من أجل الحصول على وحدات الدم التي لم تعد تجدها لابنتها، والتي أصبحت، بسبب سوء التغذية، تحتاج إلى نقل دم كل أسبوع، وبين مشفى وآخر تجوب الأم أملاً في نقطة دم، ولكن بلا فائدة.
عجز شديد في وحدات الدم
يقول حامد الحفنى، اختصاصي التحاليل الطبية بمستشفى الشفاء وحالياً بالمعمداني بعد تدمير الاحتلال للأولى، أن الشح ليس فقط في وحدات الدم والمتبرعين، لكنه أيضاً في مواد التبرع من أكياس الدم وغيرها من المستلزمات الطبية. ونتيجة لنقص أعداد المتبرعين، أوضح الحفني لـTRT عربي أنهم يضطرون إلى قبول تبرع المواطنين دون إجراء الفحوصات اللازمة والاكتفاء بطرح بعض الأسئلة الخاصة بوضعهم الصحي.
وتابع: "وإن كان وزنه مناسباً للتبرع ولا يعاني من أمراض مزمنة أو يتناول أدوية نقبل تبرعه"، مستطرداً أن المعايير كانت مختلفة قبل الحرب، إذ كانوا يعتمدون على فحوصات معينة قبل التبرع، واختفت تلك المعايير بسبب اجتياح الاحتلال مستشفى الشفاء وتدمير المواد والأجهزة التي كانوا يعتمدون عليها في تلك الفحوصات.
وأشار الحفني إلى أن الوضع الحالي يتسبب لهم بإشكالية كبيرة، إذ إن سياسة بنك الدم تقوم على أساس أن لكل مريض رصيداً، "وحالياً نضطر إلى أن نأخذ من أرصدة بعض المرضى لأجل آخرين ونعيده إليه حين يتوفر تبرُع، وأحياناً لا نستطيع أن نأخذ من رصيدهم بسبب حالتهم المتدهورة، ما يتسبب بمشكلة أيضاً في توريد الوحدات الدموية للمرضى الموجودين داخل المستشفى"
وأضاف أن المشفى يعاني عجزاً شديداً في وحدات الدم، "بخاصة مع العدد الهائل من الإصابات ونوعيتها، بالإضافة إلى احتياج أصحاب أمراض الدم المزمنة، مثل الثلاسيميا وغيرها، وكذلك مرضى المراجعات اليومية التي تحتاج إلى نقل الدم". وختم الحفني قائلاً إن كل المستلزمات الطبية في المستشفى بها نقص حاد، ويوجد خلل في جميع المصادر الحيوية التي يقوم عليها المشفى.