"الإبادة البيئية".. جريمة حرب إسرائيلية من نوع آخر في غزة
مع قرب اكتمال سنة على الحرب الإسرائيلية في غزة، تعرضت كل منطقة تقريباً في القطاع للقصف بآلاف الأطنان من المتفجرات التي أزهقت أرواح الفلسطينيين ودمرت البنية التحتية، إضافة إلى أنها خلّفت كارثة بيئية سيكون لها آثار خطيرة على المدى القريب والبعيد.
غارة إسرائيلية على مبنى سكني بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة / صورة: AA (AA)

وتُعد الانبعاثات الكربونية العسكرية رابع أعلى مصدر للتلوث عالمياً، إذ إن جيوش العالم مسؤولة عن 5.5% من انبعاثات الغازات الدفيئة، وفق ما ذكرته صحيفة الجارديان، لكن عديداً من الحكومات لا تقدم بيانات عن الانبعاثات الناجمة عن أنشطتها العسكرية، لذا فهذه النسبة قد تكون أقل بكثير من الواقع، كما أنه لفترة طويلة لم تكن توثّق الانبعاثات العسكرية، وكانت المحاولة الأولى مع بداية الصراع الروسي الأوكراني.

ومن بين أكبر مصادر الانبعاثات في الحروب وقود الطائرات والديزل للدبابات والسفن البحرية وإنتاج الأسلحة والذخيرة، أو نشر القوات، وبالطبع الدمار الذي يحدثه القصف من حرائق ودخان. وهذه الانبعاثات العسكرية لا تقتصر فقط على وقت الحرب، توجد أيضاً المخلفات والركام الناتج عن تهدم المباني والتي يصعب إعادة تدويرها. كما تدمر الحروب الحياة البرية والتنوع البيولوجي، بالإضافة إلى تراجع إدارة النفايات في البلد المتأثرة بالحرب.

الآثار البيئية للحرب على غزة

أعلن برنامج الأمم المتحدة للبيئة قبل أسابيع أن التأثيرات البيئية للحرب في غزة غير مسبوقة ما يعرض المجتمع لمخاطر التلوث المتزايد في التربة والمياه والهواء، فضلاً عن الأضرار التي لا يمكن إصلاحها للنظم البيئية الطبيعية، وأشار إلى أن الحرب خلّفت ما يقرب من 40 مليون طن من الركام، إذ يوجد الآن أكثر من 107 كيلوغرامات من الركام لكل متر مربع في قطاع غزة.

وأوضح التقرير الأممي أن إزالة هذا الحجم من الركام سيكون مهمة ضخمة ومعقدة، ويجب أن تقف الحرب ليتمكن قطاع غزة في أقرب وقت ممكن من التعافي وإعادة الإعمار، بخاصة أن هذا الركام يشكل مخاطر على صحة الإنسان والبيئة، ناجمة عن الغبار والتلوث بالذخائر غير المنفجرة ومادة الأسبستوس والنفايات الصناعية والطبية وغيرها من المواد الخطرة.

وفي السياق قالت المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، إنغر أندرسن إن سكان غزة لا يتعاملون فقط مع معاناة لا توصف من الحرب المستمرة، "بل إن الضرر البيئي الكبير والمتزايد في غزة يهدد بحبس شعبها في فترة تعافٍ مؤلمة وطويلة". وأضافت أن "أنظمة المياه والصرف الصحي انهارت، ولا تزال البنية الأساسية الحيوية تتعرض للتدمير المستمر. كما تأثرت المناطق الساحلية والتربة والنظم البيئية بشدة. وهذا يؤثر في صحة الناس والأمن الغذائي وصمود غزة".

وبيّن التقرير أن أنظمة المياه والصرف الصحي معطلة بالكامل تقريباً، إذ أُغلِقت محطات معالجة مياه الصرف الصحي الخمس في غزة، ما أدى إلى تلويث الشواطئ والمياه الساحلية والتربة والمياه العذبة بمجموعة من مسببات الأمراض والجزيئات الغذائية والبلاستيك الدقيق والمواد الكيميائية الخطرة، محذراً من أن هذا يشكل تهديدات فورية وطويلة الأجل لصحة سكان غزة والحياة البحرية والأراضي الصالحة للزراعة.

ووفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن خمسة من أصل ستة مرافق لإدارة النفايات الصلبة في غزة، تضررت بفعل الحرب وكان 1200 طن من القمامة تتراكم يومياً حول المخيمات والملاجئ بحلول نوفمير/تشرين الثاني 2023. وأضاف أن نقص غاز الطهي أجبر الأسر على حرق الخشب والبلاستيك والنفايات، ما يؤدي إلى انخفاض حاد في جودة الهواء في غزة.

وأفاد التقرير الأممي بأن نشر الذخائر التي تحتوي على معادن ثقيلة ومواد كيميائية متفجرة في المناطق المكتظة بالسكان في غزة أدى إلى تلويث التربة ومصادر المياه. كما أنها تشكل خطراً على صحة الإنسان والذي سيستمر لفترة طويلة بعد وقف الأعمال العدائية، فيما تشكل الذخائر غير المنفجرة مخاطر كبيرة جداً وبخاصة على الأطفال.

من ناحية أخرى كان يُنتج نحو 25% من الكهرباء في غزة بواسطة الطاقة الشمسية، وعشية الحرب انتهى في خان يونس العمل على بناء حقل الطاقة الشمسية الأكبر في القطاع، والذي كان من المفترض أن ينتج 3 ميغاوات من الكهرباء تسدّ حاجات مستشفيات جنوب القطاع، وتوقع تقرير الأمم المتحدة أن يؤدي تدمير الألواح الشمسية إلى تسرب الرصاص والمعادن الثقيلة الأخرى، ما ينتج عنه نوع جديد من المخاطر على تربة غزة ومياهها.

تداعيات الحرب على المناخ ودول الجوار

بدورها حذرت صحيفة الإيكونوميست البريطانية من أن العمليات العسكرية في غزة "لا تشكل فقط مصدراً للتوتر والقلق العالمي، لكنها أيضاً قضية بيئية على درجة كبيرة من الأهمية".

وفي حديث له مع وكالة الأناضول قال الخبير البيئي الفلسطيني سعيد العكلوك، إن استهداف "البنية التحتية الحيوية، مثل شبكات المياه والصرف الصحي، إضافة إلى تدمير المنازل والمباني والمنشآت الصناعية، سيترك آثاراً بيئية وصحية وخيمة تمتد لعقود، وتؤثر على المناخ والاحتباس الحراري على نطاق أوسع".

وفيما يتعلق بالتأثيرات البيئية للقذائف والمتفجرات التي ألقاها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، لفت إلى أنها: "لم تتسبب فقط بتدمير البنى التحتية والمباني، إنما دمرت البيئة أيضاً"، موضحاً أن هذه القذائف تحوي مواد مشعة وفوسفور ويورانيوم منضب، ولها آثار بيئية بعيدة المدى.

وأشار إلى تجمع كميات هائلة من الركام والمواد الكيميائية الخطيرة الناجمة عن القصف للمباني في قطاع غزة، لافتاً إلى أن هذا الركام يحتوي على بقايا أشلاء الشهداء الفلسطينيين، ما "قد يؤدي إلى انتشار الأمراض والأوبئة عبر الكلاب الضالة والحيوانات الأخرى التي تنبش الأنقاض، وتحمل الأمراض المعدية وتنقلها إلى أماكن عدة".

وأردف الخبير البيئي أن من شأن هذه الحرب أن تنعكس على المناخ، قائلاً إن "إزالة الركام الناتج عن هذه الحرب سيؤدي إلى انبعاث 629 ألف طن من الكربون المكافئ، ما يزيد من الاحتباس الحراري"، محذراً من أن هذه التأثيرات "لن تقتصر على قطاع غزة فقط، بل ستؤثر على المنطقة بأسرها".

بدورها أكدت منظمة السلام الأخضر للأبحاث البيئية، أن تلك التأثيرات لا تقتصر على فلسطين فقط بل تطال أيضاً دول الجوار مثل مصر والأردن ولبنان، إذ بدأت تشهد مصر انخفاض جودة الهواء وتلوثاً في شمال سيناء وشواطئها المطلّة على البحر المتوسط، ومن المحتمل تضرّر الثروة السمكيّة والحياة البحريّة ومخزون المياه الجوفيّة.

وأفادت المنظمة في تقريرها بأن الأردن يواجه ارتفاعاً في مستويات تلوّث الهواء بسبب موقعه الجغرافي المحاذي لغزة، وأيضاً لبنان بخاصة في المناطق الحدوديّة الجنوبية، يعاني من أضرار زراعيّة ناجمة عن الحرب، وتلوّث كيميائي من بقايا المتفجّرات. وأضافت أنّ القصف بالفوسفور الأبيض جنوبي لبنان تسبّب بأضرار بيئيّة واسعة النطاق.

معاناة تستمر لما بعد الحرب

وقدّر بحث أجرته جامعة لانكستر البريطانية بالتعاون مع باحثين أمريكيين، أن إعادة بناء 100 ألف مبنى متضرر في غزة باستخدام تقنيات البناء المعاصرة، ستولد ما لا يقل عن 30 مليون طن متري من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وهذا يعادل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون السنوية في نيوزيلندا وأعلى من 135 دولة ومنطقة أخرى.

كما قال البنك الدولي: "إن التكلفة الإجمالية للأضرار في نهاية يناير/كانون الثاني من العام الحالي بلغت نحو 18.5 مليار دولار أمريكي"، وقدّر حينها الخسائر التي لحقت بقطاع المياه والصرف الصحّي والنظافة الصحيّة بأكثر من 500 مليون دولار، إضافة إلى 629 مليون دولار في قطاع الزراعة، و411 مليون دولار في القطاع البيئي.

من ناحية أخرى قال رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في غزة سلامة معروف إنه وفق التقديرات الأممية التي تؤكدها تقارير الأجهزة الحكومية المختصة، فإن "نحو 10%؜ من القذائف والقنابل التي ألقاها جيش الاحتلال لم تنفجر"، ومن الممكن أن تنفجر في أي وقت ولو بعد انتهاء الحرب.

وحسب صحيفة واشنطن بوست، فالكثير من القنابل التي يعتقد أنها استُخدمت في غزة، "مصمّمة بحيث لا تنفجر عند ملامستها، لكن بها فتيل يسمح لها بالانفجار تحت الأرض أو داخل المباني، وقد يكون من الصعب تحديد موقع مثل هذه الذخائر".

وأدى هذا الحجم الهائل من الدمار وتأثيره البيئي إلى دعوات بالتحقيق فيه باعتباره "إبادة بيئية"، حسب "الجارديان"، إذ ينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن تعمد شن هجوم مع العلم بأنه سيحدث ضرراً واسع النطاق للبيئة الطبيعية يُعد "جريمة حرب". كما تحظر اتفاقيات جنيف استخدام الأطراف المتحاربة وسائل أو أساليب "تُلحق بالبيئة الطبيعية أضراراً بالغة واسعة الانتشار وطويلة الأمد".

TRT عربي