وبالرغم من اشتعال الشارع اللبناني باحتجاجات كبيرة في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 إلا أن الكثيرين يرون أن معدلات الفساد مازالت عند مستوياتها السابقة، ولم يختلف شيء فيما يتعلق بالوضع المعيشي للمواطن اللبناني.
قبل انطلاق شرارة الاحتجاجات الشعبية، كان القطاع المصرفي يعتبر الشريان الحيوي لكل لبنان، وركيزة أساسية للنهضة الاقتصادية، كونه يتمتع باستقلالية يقرر عبرها عملية دمج فروعه اختيارياً في حال لزم الأمر. خلافاً لما يعاني منه اليوم، إذ بات دمج الفروع قراراً لا مفر منه.
واليوم، يعاني القطاع المصرفي اللبناني من تدخلات سياسية تتجلى عبر فرض قوانين مصرفية لا يدفع ثمنها سوى المودعين. وفي خضم ذلك يعد حجم القطاع المصرفي الحالي كبيراً بالنسبة لحجم الاقتصاد الوطني اللبناني.
ومع اقتراب استحقاق شباط/فبراير 2021 وهو موعد تطبيق تعميم مصرف لبنان، الذي يفرض على المصارف زيادة رأسمالها أو الخروج من السوق، بدأت المصارف تتحضر لمواجهة أزماتها المحقة قبل الموعد المحدد باستراتيجيات جديدة. تتجلى بدمج فروعها وتقليص عددها، وتسريح عدد كبير من الموظفين، وهو الأمر الذي سيكون له ارتدادات مباشرة نحو ارتفاع معدلات البطالة والفقر والهجرة إلى مستويات قياسية غير مسبوقة.
بحسب آخر استطلاعات كشفتها الشركة الدولية للمعلومات، ارتفع عدد العاطلين عن العمل بعد انطلاق احتجاجات 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 من 350 ألفاً (25% من حجم القوى العاملة) إلى 430 ألفاً (32% من القوى العاملة)، من جراء الأزمة الاقتصادية والتعبئة العامة التي فرضتها جائحة كورونا. في حين يُتوقع وصول أعداد العاطلين عن العمل في الأشهر المقبلة إلى نحو المليون، أي 65% من القوى العاملة.
أربعة أشهر حاسمة للمصارف
"الأرقام التي أشيعت حول احتمالية تراجع العدد الإجمالي لفروع المصارف في لبنان من 1100 فرع إلى أقل من 800 مع بداية العام 2021 جميعها من نسج الخيال".. بهذه الكلمات نفى رئيس "اتحاد نقابات موظفي المصارف" جورج الحاج صحة التوقعات والأرقام المغلوطة التي تنشر في وسائل الإعلام لناحية تقليص عدد المصارف.
ويؤكد في حديث لـTRT عربي أن "هناك مصارف كبيرة لم تُقفل أكثر من ستة فروع إلى حد الآن، وهي من المصارف العشرة الأوائل في لبنان مثل بنك عودة وBlom وByblos وFransabank. حتماً المصارف الكبيرة ستضطر العام المقبل لتصغير حجمها وإقفال عدد من فروعها، ولكن في الوقت الحاضر لا توجد هذه الأرقام التي يُحكى عنها".
ويرى الحاج أن "الأربعة أشهر المقبلة هي مرحلة حاسمة ستحدد تاريخ القطاع المصرفي اللبناني ومستقبله، ذلك وفقاً لتعميم رقم 154 صادر عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وهو التعميم الذي لن يحصل قبل نهاية شهر شباط/ فبراير 2021، إلا أننا نعتبره الخطوة الأولى باتجاه إعادة هيكلة القطاع المصرفي".
وفي التفاصيل، يهدف التعميم رقم 154 إلى إعادة تفعيل عمل المصارف العاملة في لبنان، إذ ينبغي على المصارف "حث عملائها الذين حولوا ما يفوق مجموعه 500 ألف دولار إلى الخارج خلال الفترة المبتدئة من تموز 2017، أن يودعوا في حساب خاص مجمّد لمدة، مبلغاً يوازي 15% من القيمة المحوّلة. هذا البند يشمل أيضاً رؤساء وأعضاء مجالس إدارة وكبار مساهمي المصارف، بالإضافة للإدارات العليا التنفيذية للمصارف وعملاء المصارف من الشخصيات السياسية كالذين يشغلون مناصب تنفيذيّة أو تشريعيّة أو إداريّة عليا في الدولة. هنا تصبح النسبة التي يقتضي إعادتها وتجميدها لمدة خمس سنوات هي 30% بدلاً من 15% من قيمة التحويلات التي تمّت إلى الخارج".
ويقول رئيس "اتحاد نقابات موظفي المصارف": "حتماً القطاع المصرفي ليس بخير، طالما الوضع السياسي في البلد على هذه الحال نحن ذاهبون من السيئ إلى الأسوأ. اليوم المصارف جميعها كي تستطيع الوقوف من جديد ينبغي أن تذهب الأمور نحو تشكيل حكومة تحظى بثقة الخارج قبل أن تحظى بثقة السياسيين في لبنان. بخاصة أننا جميعنا نعوّل على دعم خارجي يأتي في هذا الظرف الذي نمر به، وبدونه لن نستطيع أن نخرج من هذه الورطة".
70% من الودائع تبخرت
"المصارف هي ضحية السياسات الفاسدة الموجودة في لبنان بعد أن كانت رقم واحد في لبنان، والأكثر نجاحاً وجذباً للاستثمارات والودائع الداعمة لخزينة الدولة"، بحسب المحلل الاقتصادي باسل الخطيب.
ويضيف الخطيب في حديث لـTRT عربي أن: "الأزمات السياسية والاقتصادية في لبنان تحولت إلى أزمة نقدية، في وقت زادت جائحة كورونا، وحادثة انفجار المرفأ الطين بلة. أما اليوم فالقطاع المصرفي ليس عمله أن يدعم الدولة، المودعون يضعون ودائعهم في مصرف لبنان والمصرف يدين الدولة والأخيرة تعجزعن سدها، بالتالي المودعون أصبحوا ضحية بخاصة خلال حكومة الرئيس حسان دياب، حيث وُضعت خطة اقتصادية وإنقاذية في داخلها، لكنها تخفي في طياتها ضرب القطاع المصرفي وتحميله المسؤولية الكاملة".
وحول أموال المودعين المحجوزة لدى المصارف منذ عام تقريباً، يرى الخطيب أن "جزءاً كبيراً من أموال المودعين تبخرت. اليوم حين يكون معك 100,000$ في البنك وتريد سحبها، أنت غير قادر على سحبها إلا على 100 شهر كلّ شهر تستطيع سحب 1000$ وفقاً لسعر صرف الدولار الواحد مقابل 3900 ليرة لبنانية".
يتابع: "إذا أردت سحبها في شهر واحد يمكن اللجوء إلى بيع الشيكات أو تحويلها إلى حساب شخص آخر على أن يعطي المودع المبلغ نقداً. وبالطبع حينها سيذهب منهم تقريباً 70%. جميع الأموال التي تخرج من البنك اليوم والتي يحاول المودعون سحبها والهروب بما يتيسر منها تخسر 70% من قيمتها الفعلية. نحن نعيش أسوأ مرحلة يشهدها لبنان منذ تاريخه".
أزمة المصارف تفاقم البطالة
في الآونة الأخيرة اعتمدت المصارف سياسة خفض النفقات عبر تطبيق خطة لتقليص عدد العاملين في القطاع المصرفي، وتخلل هذه السياسة تضارب في الأرقام والإحصائيات الفعلية للموظفين الذين فقدوا عملهم.
وفي هذا السياق، يؤكد رئيس "اتحاد نقابات موظفي المصارف" جورج الحاج أن "عدد العمال الذين فقدوا عملهم في المصارف لم يتجاوز الـ 1300 عامل منذ العام 2019 وحتى اليوم".
في حين يكشف المحلل الاقتصادي باسل الخطيب أن "70 ألف موظف فقدوا وظائفهم العام الجاري، وتحديداً 300 عامل يفقد وظيفته بشكل يومي"، بحسب قوله.
وبالعودة لموظفي القطاع المصرفي، يقول الخطيب: "بدأت المصارف منذ أشهر بطرح مجموعة خطط لرفع رأس مالها. بداية من خلال تقليص موظفيها عبر دفع تعويضات لهم، كما لجأت إلى سياسة الدمج وتقليص أعداد فروعها. إن سياسة رفع رأس المال خطوة ليست هينة وهي أسهل بالنسبة للبنوك الصغيرة التي تستطيع رفع رأس المال لديها ببضع ملايين من الدولارات، ولكن البنوك الكبيرة تحتاج إلى مئات الملايين وهذا الأمر يتطلب وقتاً كبيراً".
وحول ارتباط انخفاض الدولار بعملية تشكيل الحكومة، يرى الخطيب أنه "حتى في حال تشكيل الحكومة فإن الدولار لن ينخفض، اليوم هناك فقدان للدولار في البلد يتخلله انعدام للاستثمارات الأجنبية التي تأتي إلى لبنان، وتخلق فرص عمل، وتجلب العملة الصعبة. اليوم لا يوجد استثمارات أجنبية، المشهد مأساوي ونحن نعيش أسوأ المراحل".
ويضيف: "إذا كنا لا نريد أن نصبح مثل فنزويلا وإيران حيث يحملون كيساً من المال لشراء ربطة خبز، يجب الإسراع بتشكيل حكومة ترضي اللبنانيين والمجتمع الدولي، وتنفذ إصلاحات على رأسها الكهرباء. بالإضافة لضرورة إعادة إحياء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي".
إذن المصارف اللبنانية هي الآن أمام مرحلة مصيرية إلى حين موعد استحقاق فبراير/شباط 2021، وهو تاريخ حاسم يحدد عنوان المرحلة المقبلة في القطاع المصرفي، فهل سيصمد أمام التحديات السياسية التي تحيط به؟