هل يشكِّل احتجاج بطل تركيا بداية لوأد العنصرية بالملاعب؟
سجَّل فريق باشاك شهير التركي الذي يمثل بلاده في مسابقة دوري أبطال أوروبا اسمه في تاريخ سجلات كرة القدم، بعدما أظهر لاعبوه وطاقمه التدريبي موقفاً تاريخياً ضد العنصرية سيبقى عالقاً بأذهان عشاق "اللعبة الشعبية الأولى في العالم".
باشاك شهير (AA)

وأشعلت واقعة العنصرية غضباً عارماً في مختلف الأوساط الرياضية تركيّاً وأوروبيّاً، لدرجة أن الرئيس التركي ونائبه ووزير خارجيته علقوا عليها، فأبدى الأول إيمانه بأن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم سيتخذ الخطوات اللازمة، مؤكداً وقوف تركيا "في مواجهة أشكال العنصرية والتمييز كافةً، في الرياضة وجميع مجالات الحياة بلا قيد أو شرط".

كما أجمع إعلاميون ومحللون ومختصون رياضيون تحدثوا لـTRT عربي، على أن الواقعة لن تمر مرور الكرام وستدفع الاتحاد الأوروبي للعبة بمعية نظيره الدولي إلى اتخاذ خطوات وإجراءات أكثر صرامة بملاعب الساحرة المستديرة للتصدي لظاهرة العنصرية التي لا تزال تطل بوجهها البشع بين فترة وأخرى.

ماذا حدث؟

الزمان مساء الـ8 من ديسمبر/كانون الأول 2020، أما المكان فملعب "بارك دي برينس" بالعاصمة الفرنسية باريس، فيما المناسبة مباراة كروية بين باريس سان جيرمان وضيفه باشاك شهير التركي في الجولة السادسة والأخيرة من منافسات المجموعة الثامنة من دوري أبطال أوروبا لكرة القدم.

المباراة الفرنسية-التركية توقفت بالدقيقة الـ14 عند تفوُّه الحكم الرابع الروماني سيباستيان كولتيسكو بكلمة "زنجي" في وجه الكاميروني بيير ويبو مساعد مدرب الفريق التركي، ليرفض لاعبو الأخير استكمال المباراة رغم محاولات استبدال الحكم بـ"حكم تقنية الفيديو"، كما تضامن لاعبو النادي الباريسي مع نظرائهم الأتراك وعلى رأسهم النجم كيليان مبابي.

ورضخ الاتحاد القاري لرغبة الناديين، وأعلن تعيين طاقم تحكيم هولندي بقيادة داني ماكيلي بدلاً من الطاقم الروماني، فاستُكملت المباراة بعد 24 ساعة من حيث توقفت.

وفي واقعة فُهم منها امتصاص غضب الفريق التركي علَّق اليويفا طرد "ويبو" مساعد باشاك شهير حامل لقب الدوري التركي، وسمح له بالوجود على مقاعد البدلاء عند استئناف المباراة التي انتهت بفوز باريسي ضَمِنَ لرفاق النجم البرازيلي نيمار دا سيلفا صدارة المجموعة.

ولم يكتفِ الاتحاد القاري بذلك، إذ ارتدى الطاقم التحكيمي الجديد قمصاناً كُتب عليها "لا للعنصرية"، كما جثا لاعبو الفريقين منتصف الملعب على ركبهم ورفعوا أيديهم المقبوضة بصحبة الطاقم الهولندي، مع عزف النشيد الوطني للبطولة القارية الأشهر والأكثر شعبية عالمياً، في حين امتلأت جنبات مدرجات ملعب المباراة بالعبارات واللافتات المنددة بالعنصرية والمساندة للمدرب الكاميروني.

وعلى الرغم من خروجه من الدور الأول قدَّم باشاك شهير الذي ينتمي إلى مدينة إسطنبول أداءً يُحسب له في أولى مشاركاته بـ"ذات الأذنين"، بعدما حقق فوزاً تاريخياً على "مانشستر يونايتد" الإنجليزي، وكان نداً عنيداً لـ"لايبزيغ" الألماني الذي بلغ نصف نهائي النسخة الماضية من البطولة الأوروبية.

ونجح باشاك شهير الذي أُسس عام 1990 في مزاحمة الثلاثي الكروي الشهير ببلاده، وهنا يدور الحديث حول "غلطة سراي" و"بيشكتاش" و"فنربهتشه"، وتمكَّن من احتلال مراكز متقدمة بجدول ترتيب الدوري التركي في المواسم الماضية، وصولاً إلى التتويج بلقبه في الموسم الفائت (2019-2020) للمرة الأولى في تاريخه.

هزة كبيرة

وبالعودة إلى حادثة العنصرية فقد وصفها الإعلامي والمعلق الرياضي الأردني خالد الغول بأنها واقعة "ستحدث هزة كبيرة بعالم الرياضة عموماً، لأن من تسبب فيها حَكَم مُكلَّف بتطبيق قانون كرة القدم".

وبيّن الغول في حديثه لـTRT عربي أن من أبرز بنود قانون كرة القدم "حماية الإنسان واحترام حقوقه"، وهو ما يضفي أهمية كبيرة على الواقعة لكونها لم تأتِ من مشجع عادي يختفي في المدرجات.

وأشار إلى أن الحادثة "كشفت أن العنصرية التي يحارب الجميع للقضاء عليها لا تزال متفشية وبشكل مستتر بين جميع أطراف الرياضة وليست حكراً على المشجعين".

وأوضح أن الاتحاد الأوروبي عيّن محققاً مع مساعديه للوصول إلى حقيقة ما حدث، متوقعاً أن تفرض الجهات المختصة "العقوبة الأشد على الحَكَم الروماني"، مرجحاً "شطبه من ممارسة التحكيم".

وأكَّد أن ما فعله الحكم الرابع "ليس سهلاً على الرغم من محاولة تبريره وتقديمه أعذاراً بأنه كان يريد تمييز الشخص المطرود من لونه"، وهو ما لم يقبله أحد، وفق الغول.

"لا للعنصرية"

من جانبه قال صحفي شبكة "سكاي سبورت" الألمانية محمد أمين كناني إن الكلمة التي تفوَّه بها الحكم الروماني ستبقى راسخة بأذهان متابعي الكرة الأوروبية العالمية ومناهضي العنصرية، كما حدث مع كلمات مارتن لوثر كينغ (لديَّ حلم)، وجورج فلويد (لا أستطيع التنفُّس).

وأوضح كناني في حديثه لـTRT عربي أن اليويفا تحرَّك وبدأ البحث في ملابسات الحادثة عبر تحقيق تقوده لجنة الأخلاقيات والتأديب، مبيناً أن الاتحاد الأوروبي تعهَّد بتوفير المعلومات المتعلقة بالتحقيق "في الوقت المناسب".

ويؤمن بأن الاتحاد الأوروبي "لن يكون متسامحاً بمثل هذه القضايا"، مستدلاً بشعار "لا للعنصرية" الذي يوجد على جميع قمصان الفرق المشاركة في كل بطولات اليويفا على صعيد الأندية والمنتخبات.

لكنه استدرك بدعوته الفيفا واليويفا لأن يكونا "أكثر صرامة وحزماً من أجل تطهير كرة القدم"، إضافة إلى دور الاتحادات والأندية والجماهير بمجابهة العنصرية والفساد والعنف والتصدي لكل ما من شأنه أن يفسد الجو العام، لأن مثل هذه الأحداث "تؤثر فعلاً وتؤدي إلى حالات احتقان لدى اللاعبين والمسؤولين والجماهير الرياضية".

عقوبة مغلظة

الكاتب والمحلل الرياضي المختص بالكرة الأوروبية معتصم يونس وصف الحادثة بأنها "فريدة من نوعها"، مشيراً إلى "فظاعة اللفظ الذي أطلقه الحَكَم المساعد ضد أحد أعضاء الطاقم التدريبي للفريق التركي".

وأبدى احترامه لقرار الفريق التركي وطاقمه بالانسحاب من اللقاء، الذي قال إنه "حق أصيل ومكفول له"، مشيداً بانحياز نجوم الفريق الباريسي إلى باشاك شهير.

وأكد "يونس" في حديثه لـTRT عربي أن للفريق التركي كامل الحق في اتخاذ "قرار رادع لمواجهة العنصرية"، بخاصة مع واقعة تاريخية تحدث لأول مرة من قبل أحد أفراد طاقم التحكيم، وهو ما يضع اليويفا أمام معضلة كبيرة في كيفية اتخاذ إجراءات صارمة.

ورجَّح المحلل الرياضي أن يُقدِم الاتحاد الأوروبي للعبة على شطب الحكم الروماني من سجلاته أو عقابه بوقفه عن التحكيم مدة زمنية واضحة، قائلاً إنها "لن تقل عن عام".

وبيّن أن الاتحادين الدولي والأوروبي "لديهما مشاكل في كيفية مناهضة العنصرية بملاعب الكرة لأسباب مختلفة من بينها الخصومات السياسية والتاريخية والديموغرافية بين الفرق المتواجهة والدول التي تمثلها".

وأكد أن ما حدث غير مسبوق لكونه صدر من أحد "قضاة الملاعب"، بعيداً عن العنصرية التي يكون أطرافها جماهير الفريقين أو حتى بين اللاعبين أنفسهم، مشيداً بكلام المهاجم السنغالي لباشاك شهير ديمبا با أمام طاقم التحكيم، إذ ندد بطريقة مناداة اللاعبين ذوي أصحاب البشرة السوداء.

وخلص إلى ضرورة أن يكون لطاقم التحكيم "أسلوب أكثر قبولاً واعتدالاً وشفافية في التعامل مع اللاعبين لكي تُطبَّق معايير (لا للعنصرية)"، موجهاً في ختام حديثه تساؤلاً إلى الحكام مفاده: "إن كانت الهفوات تأتي منكم فماذا أبقيتم للاعبين والجماهير؟".

وقائع عنصرية سابقة

وشهدت ملاعب اليويفا وقائع عنصرية سابقة على غرار ما حدث السنة الماضية عندما تَقابل ليفربول الإنجليزي ومضيفه جينك البلجيكي، ورفع مشجعو الفريق الأخير لافتات وملصقات عنصرية بحق المهاجم البلجيكي لـ"الريدز" ديفوك أوريجي.

كما كان لاعب خط وسط مانشستر سيتي الإنجليزي سابقاً الإيفواري يايا توريه، عرضة لهتافات وأهازيج عنصرية أمام سسكا موسكو بدوري المجموعات بدوري الأبطال عام 2013، إذ عاقب اليويفا الفريق الروسي بغرامة مالية ومباريات بلا حضور جماهيري.

وفي منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2019، تعرض لاعبو إنجلترا أصحاب البشرة السوداء لهتافات عنصرية وسمعوا تقليد أصوات قرود من الجماهير البلغارية خلال مباراة منتخبَي البلدين ضمن التصفيات الأوروبية المؤهِّلة لكأس الأمم الأوروبية (يورو 2020).

وألقت الشرطة في بلغاريا القبض على أربعة أشخاص مشتبه بهم، واستقال رئيس الاتحاد البلغاري لكرة القدم من منصبه على خلفية ما حدث، في حين دعا رئيس اليويفا السلوفيني ألكسندر تشيفرين "أسرة كرة القدم والحكومات" إلى "شن حرب على العنصريين".

بروتوكول وعقوبات

وكان الاتحاد الأوروبي للعبة قد أصدر عام 2009 بروتوكولاً للتعامل مع الهتافات العنصرية في حال سَمِعَها حكم اللقاء أو أبلغه الحكم الرابع بها وذلك لوأد تلك الممارسات.

ويتضمن البروتوكول ثلاث خطوات، الأولى وقف المباراة وطلب التوقف عن أي هتاف أو تصرف عنصري من الجماهير، وبمقدور الحكم اللجوء إلى الخطوة الثانية بوقف المباراة فترة زمنية محددة (5 أو 10 دقائق)، يغادر خلالها اللاعبون أرضية الملعب إلى غرف خلع الملابس، مع توجيه نداء آخر للمشجعين بالتوقف عن الأهازيج والأصوات العنصرية.

ويحق للحكم في آخر خطوات البروتوكول إلغاء المباراة نهائياً، بعد التشاور مع مراقب المباراة وتقييم أثر القرار على سلامة اللاعبين والجماهير، فيما يتولى اليويفا بعد الإلغاء التحقيق بأحداث اللقاء بشكل تفصيلي.

وفي عام 2013 ضاعف اليويفا عقوباته لتصل إلى الوقف 10 مباريات بحد أقصى، في حق أي لاعب أو مسؤول يثبت اقترافه تصرفاً عنصرياً. كما ضاعف العقوبات المفروضة على المنتخبات وبخاصة حال تكرار المخالفة، كاللعب بلا جماهير وفرض غرامات مالية.

كما زاد الفيفا في أحدث تعديلات أُدخلت على قانون التأديب بيوليو/تموز 2019، فترة وقف أي مسؤول أو لاعب يثبت ارتكابه ممارسة عنصرية إلى 10 مباريات بعد أن كانت 5 فقط، كما تتضمن العقوبات المفروضة على الأندية والمنتخبات إغلاقاً جزئياً للملعب أو منع حضور الجمهور بشكل كامل لبعض المباريات مع غرامة مالية (20 ألف دولار).

بدوره اقترح رئيس الفيفا السويسري جياني إنفانتينو آنذاك أن يسن جميع منظمي المنافسات "لوائح تنص على حظر مدى الحياة من دخول الملاعب لأولئك الذين أدينوا بالسلوك العنصري في إحدى مباريات كرة القدم".

نادي باشاك شهير (AA)
TRT عربي