للأتراك علاقةٌ خاصّة مع الحيوانات الأليفة، خاصّةً القطط والكلاب. لا يمكن لزائر إحدى المُدن التركية ألاّ يلاحظ ذلك الاهتمام الكبير الذي يوليه النّاس لهذه الحيوانات. فالكلابُ تسيرُ بحرّية في الشوارع، وتستلقي قرب أبواب المحلّات دون أن تُثير خوف المارّة، مهما كان حجمُها كبيراً. أمّا القطط، فهي مدلّلة الجميع. تقتربُ من النّاس بدون توجّس. تتمدّد على الأرض بدلال. وتتمشى في الشوارع رافعةً أذنابها بكلّ انتشاء.
إذا كان الواحدُ قادماً من إحدى البلدان العربية، فسيلاحظ، بدون شكّ، المعاملة الخاصّة التي تحظى بها قططُ وكلابُ الشوارع في تركيا. فخلافاً لجلّ هذه المجتمعات التي تعاني فيها القطط والكلاب من الإهمال أو المعاملة السيّئة، سيتفاجأ الواحد من جمال العلاقة بين الأتراك وهذه الحيوانات الأليفة، وحجم التواصل بينهما.
الرّفق بالحيوان
رجلٌ يُطعِم قطّة وصغارَها. امرأةٌ تنحني لتمسّد رأس قطٍّ في الشارع. طفلٌ يحمِل قطّاً من الشارع لتلاعبه في سلامٍ منقطع النّظير. فتاةٌ تمرّ قرب كلبٍ ضخم في ظلمةِ الليل بدون أي شعورٍ بالرّعب. مشاهدُ تُصادف الجميع يومياً في تركيا، وخاصّةً في مدينة إسطنبول، حيث تجدُ في كلّ مكان صحوناً لإطعام القطط والكلاب، وأوعيةً تحتوي على الماء، وصناديق لوضع الفضلات، بل حتى مآوٍ خاصّة، حيث تلجأ هذه الحيوانات لتنام وتختبئ من البرد.
هذه المُعاملة الخاصّة التي تحظى بها قطط وكلاب الشوارع من طرف الأتراك، لم تأتِ من فراغ. بل من وعيهم العميق بمسألة الرّفق بالحيوان، ومعتقداتٍ راسخة لديهم مرتبطة بجلب الحظ والبركة، بالإضافة إلى فرادةِ تعريفهم للحبّ والعلاقة مع الكائنات الأخرى.
حبّ من نوعٍ آخر
"من لا يحبّ الحيوانات لا يمكن أن يحبّ الناس"، يقول أحدُ المشاركين في الفيلم الوثائقي التركي Kedi/القطّة، الذي تمّ عرضُه عام 2016 في مهرجان إسطنبول للأفلام المستقلّة. توضّح هذه الجملة بشكلٍ جليّ علاقةَ الأتراك مع الحيوانات، وخاصّةً القطط. علاقةٌ غير مرتبطة بالرّفق بالحيوان فقط، بل أيضاً بحبّ الكائنات الأخرى واحترام وجودها.
مشارِكةٌ أخرى في الفيلم الوثائقي نفسِه تتحدّثُ عن حبّها للقطط، وتعتبر
التعايش بين النّاس والحيوانات نوعاً من المعجزات. توضّح وهي تُمسّد بحنان واحداً
من قطط الشوارع "إنّهم مختلفون عنّا جسدياً، ونفسياً، ومن ناحية القدرات
أيضاً، ومع ذلك نستطيع التواصل معهم، وبناء علاقةٍ جيّدة معهم".
يُذكر أن الفيلم الوثائقي Kedi/القطّة يحكي قصصاً فريدة لسبع إسطنبوليين مع قطط الشوارع، حبّهم الخارق لها، وإيمانهم بقدراتها في جلب السعادة والحظ والبركة.
روح إسطنبول
اهتمام الأتراك بالقطط وإحسانهم إلى الكلاب ليس فقط بهدف التسلية، بل أيضاً نوعاً من الحفاظ على الهوية. فالكلابُ التي تتجوّل بحرية بين سكان مدينة إسطنبول، والآلاف من القطط التي تتدلّل على أرجلهم في المقاهي، ويشاركونها وجباتهم في المطاعم، تُعتبر جزءاً من جمالية هذه المدينة.
يقول مشارِكٌ في الفيلم الوثائقي "القطّة" إنّه "بدون القطط، ستفقد إسطنبول قطعةً من روحها".
وترجعُ هذه العلاقة المتينة بين الأتراك والحيوانات الأليفة إلى جذورٍ تاريخية قديمة. ففي العهد العثماني، كانت هناك أوقافٌ خاصّة لرعاية وحماية وإيواء القطط والكلاب وحتى الطيور. وأوجِدت مهنٌ خاصّة بالاعتناء بهذه الحيوانات، ويمارسُها أشخاصٌ مُحدّدون يقومون بجمع الطعام وتوزيعه على القطط والكلاب والطيور، وآخرون متخصّصون في إعداد بيوتٍ خاصّة لها في الأحياء. وكانت الأوقاف تدفعُ راتباً لمن يقوم بهذا العمل.
حبّ القطط من الإيمان
بالإضافة إلى واجبِ الرفق بالحيوان، والذي حثّ عليه الإسلام، باعتبار الحيوانات ترافق البشر خلال حياتهم، فإنّ الأتراك يعتبرون أنّ "حبّ القطط من الإيمان"، إذ يوجدُ لديهم مُعتقدٌ راسخ يعتبر أنّ القطط بالضبط حيواناتٌ يمكنها أن تجلب للبشر البركة والحظ إذا ما كانوا رفيقين بها، محبّين لها. أمّا في حالةِ العكس، فقد تجلبُ لهم الشؤم وسوء الحظ طول حياتهم.
أحدُ المشاركين في الفيلم الوثائقي "القطة"، وهو رجلٌ تركي مسنّ، يعتبر أنّ "القطط كائناتٌ واعية بوجود الله، وهي تعرفُ جيداً أنّ الإنسان يعمل كوسيط لإرادة الله"، ولذلك فهو يقدّسها. يضعُ لها الطعام والماء كلّ يومٍ على الطريق، وهو يدرك جيداً أنّ هذا واجبه، والعمل الذي سيعود عليه بالخير لاحقاً.
برامج انتخابية خاصّة بالحيوانات
لا تقتصرُ برامج الأحزاب في الانتخابات المحلّية التركية على تسيير وتدبير شؤون المواطنين في المدُن، بل الحيوانات الأليفة أيضاً. باعتبار أنّ هذه الأخيرة تسكُن المدُن أيضاً جنباً إلى جنبٍ مع البشر.
في هذا السياق، وَعد محمد أوزهاسكي، مرشّح عن حزب العدالة والتنمية التركي لرئاسة بلدية أنقرة، أنه سيُنجز مشروعاً خاصّا بالحيوانات الضالّة، وهو عبارة عن ملاجئ لها، بشرط ألّا تكون عبارة عن سجنٍ لها، حسب ما نقله موقع "حرييت" التركي.
هذا يعني أنّ الاهتمام بالقطط وبقية الحيوانات في الشارع، ليس حكراً على الشعب، بل حتى السلطات تلعبُ دوراً مهمّا في توفير البيئة المناسبة لها من أجل العيش في سلام وكرامة. في هذا الإطار، قامت بلدية مرسين بإنشاء أول حديقة للقطط، تحتوي على بيوتٍ صغيرة للنوم، طعام، وأوعية ماء. كما عملت البلدية نفسُها على تثبيت كاميرات أمان حول الحديقة، من أجل حماية هذه القطط من أي خطرٍ خارجي.
تمثال القطّ "تومبيلي"
أن يُقام تمثالٌ على الرّصيف لقطٍّ تكريماً له، فهذا يُبين قيمةَ الحيوانات عند الشعب التركي. بعد أن فارق القط السّمين "تومبيلي" الحياة في العاشر من أغسطس من عام 2016، قامت النحاتة التركية سيوال شاهين، بإقامة تمثالٍ له على نفس الرّصيف الذي اعتاد على الجلوس فيه في منطقة كاديكوي بمدينة إسطنبول.
يظهر التمثال القط "تومبيلي" وهو يجلس بطريقةٍ فخمة، كأنه زعيمٌ أو ملك. الهدفُ من ذلك إظهار مكانة القطط في حياة الإسطنبوليين. هؤلاء أصبحوا ينادون أي قطٍّ سمين باسم "تومبيلي".
لا بدّ أيضاً من ذكر قططٍ شهيرة أخرى في تركيا، وهي قطط مرّت من مدينة
إسطنبول وبقيت عالقةً في ذاكرة هذا الشعب، منها: ساري المحتالة، أصلان الصياد،
بينجو العاشقة، سيكوبات المجنونة وغيرها...
الرّفق بالحيوان، الإحسان إليها، حبّها، جلبُ البركة عن طريقها... مهما اختلفت الأسباب، تبقى علاقة الأتراك مع الحيوانات الأليفة استثنائية وفريدةً من نوعها، تزيدُ من جمالية المُدن التركية، وخاصّةً إسطنبول، التي تنامُ فيها الكلاب في أمان، وتتمدّد فيها القطط باطمئنان، وتحلّق الطيور بسلامٍ في سمائها.