"لستُ أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمراً في تقدير الحساب، وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياةً واحدة في هذه الدنيا، وحياةٌ واحدة لا تكفيني، ولا تحرّك في ضميري من بواعث الحركة"، يقول الكاتب والروائي المصري عباس محمود العقاد (1889ـ 1964) عن عشقه للكتب وشغفه بالقراءة.
ويضيف الكاتب المصري في كتابه "أنا": "مهما يأكل الإنسان، فإنه لن يستطيع أن يأكل بأكثر من معدة واحدة، ومهما يلبس فإنه لن يلبس على غير جسد واحد، ومهما يتنقّل في البلاد فإنه لن يستطيع أن يحلّ مكانين. ولكنّه بزاد الفكر والشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمرٍ واحد".
القراءةُ، كما نستشفّه من كلماتِ العقاد إذن، هي الفكر والشعور والخيال في آن واحد. تمنحُ لحياتنا عُمقاً بالفكر الذي تحمِله، ولعواطفنا عمقاً بالمشاعر التي تختبئ بين طياتها، ولخيالنا عمقاً بالقصص التي تقدّمها والاحتمالات المتعددة للوجود التي تعرضها أمامنا من خلال الحكايات والشخصيات والمصائر.
القراءةُ تهذّب الفكر والشعور، وتهدّئ النفس. القراءة ليست ترفّعاً عن الواقع، وإنما ميكانيزماتٌ لفهم الواقع وتقبّله في بعض الأحيان، والثورة عليه في بعض الأحايين.
ومع كلّ فوائد القراءة الكثيرة هناك أشخاصٌ لا يقرؤون، وفي منطقتَي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تنخفض نِسبُ القراءة إلى أبعد حدّ. الأسبابُ كثيرةٌ ومتعدّدة، قد تتراوح بين الأوضاع الاجتماعية الصعبة وعدم الاهتمام بالثقافة بشكلٍ عامّ، بالإضافة إلى مبدأ "الخبز أولاً" أو "كيف يمكن لإنسانٍ لا يجدُ حتى ما يأكله أن يشتري كتاباً ويقرأه؟".
لكنّ أهمّ أسباب العزوف عن القراءة أيضاً في هذه المناطق هو عدم تربية الأطفال عليها، وعدم توعيتهم بأهميتها في حياتهم، مثلَ أهمّية الخبز تماماً.
"القراءة مهمّةٌ كالخبزِ تماماً"
"بدأتُ القراءةَ منذ أن كنتُ في المدرسة الابتدائية. كنتُ أقرأ قصص المكتبة الخضراء للأطفال، وأسافر في عوالمها البريئة وخيالها الواسع وقصصها الجميلة، وفي سنّ الرابعة عشرة بدأتُ في قراءة الروايات والكتُبِ الفكرية. لم أكن أفهم كلّ ما أقرؤه مثلما أفهمه الآن وأنا امرأة ناضجة، لكنّ القراءة ساعدتني على فهم واقعي والتمرّد عليه إن صحّ التعبير"، تقول حنان، مدرّسة، في حديثها لـTRT عربي.
لم يكنْ لحنان أيّ مصدرٍ ماليّ لشراء الكُتب، فهي تنتمي إلى عائلة فقيرة بصعوبة توفّر مصدَر العيش لأبنائها ليظلّوا على قيد الحياة ويكملوا تعليمهم، لكنّها مع ذلك استطاعت أن تقرأ أهمّ الأعمال الأدبية والفكرية التي كُتِبت. وهو ما ساعدها، كما تقول، على التفوّق في دراستها، وعلى أن تكون "إنساناً أفضل" على مستوى حياتها الشخصية.
"قرأتُ كلّ أعمال دوستويفسكي ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وغابرييل غارسيا ماركيز وغيرهم. من أين كنتُ أدبّر المال؟ لم أكن أدبّر المال. كنت ألجأ إلى مكتبة المدرسة كلّما اشتقتُ إلى رائحة الكتب، وكلّما نبض قلبي للقراءة، أو أستعير كتباً من معارفي الذين يمتلكون كتباً في البيت"، تقول حنان بعينين ملتمعتين.
وتضيف في حديثها لـTRT عربي بشفتين منفرجتين على ابتسامة ساخرة: "ليس صحيحاً أن قلّة المال هي التي تمنع الناس من القراءة، وإنما عدم الوعي بأهميتها. لم أكن أملك أيّ شيء عندما قرأت، فالذين يريدون أن يقرؤوا يمكنهم أن يقتلعوا الكتب حتى من تحت الأرض".
اكتساب الذكاء والتعلّم من التجارب
عمِل دانيال ويلينغهام، أستاذ علم النفس في جامعة فيرجينيا طيلة فترةٍ طويلة على موضوع أهمية القراءة للأطفال والبالغين، وكيف يمكن جعل الأطفال يقبلون على القراءة وتصبح فعلاً محبّباً لديهم، وأصدر كتاباً بعنوان "كيف ننشئ جيلاً يقرأ؟ أساليب يمكن للأهل والمدرّسين اتباعها".
يقول ويلينغهام في كتابه: "الدراسات تقول إن القراءة تجعل من الشخص أكثر ذكاءً، لكنني حتى ولو اكتشفتُ غداً أن الدراسات كانت مخطئة، فسأبقى راغباً في أن يقرأ أطفالي. أريدهم أن يقرؤوا لأنني أثق بأن القراءة تتيح لهم من التجارب ما لا يمكن توفّره بعيداً عنها".
ويضيف أستاذ علم النفس: "هناك وسائل أخرى ليتعلّم المرء، وطرائق أخرى للتعاطف مع معاناة البشر الآخرين والشعور بشعورهم، وسُبل مختلفة لتقدير الجمال من حولنا، غير أن نسيج هذه التجارب مختلف عندما تمرّ بها عبر القراءة. وهذا ما أريد لأبنائي أن يختبروه. لذا بالنسبة إليّ القراءة قيّمة، قيّمة وعظيمة كحبّي لبلدي أو تقديري للصدق والنزاهة".
القراءة لا تؤدي إلى الجنون وإنما إلى العقل!
يأتي دور الآباء في تربية أبنائهم على القراءة وتوعيتهم بأهميتها، بالنظر إلى أن المدرسة أولاً لا تقوم بهذا الدور، ولا المجتمع المحيط يساعد على تنشئة الأبناء عليها. إذ تنتشر مواقفُ سلبية عديدة في منطقتَي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حول هذا النشاط الذهني المهمّ، من قبيل أن "المجانين فقط من يقرؤون"، أو أن "قراءة الكتب تؤدي إلى الجنون"، أو حتى أن "القراءة لا تجدي نفعاً في الحياة بصفةٍ عامّة".
وفي ظلّ هذا الوضع يحتاج الأطفال إلى تنمية اهتمامهم بالقراءة عبر تجارب الآخرين الذين يقرؤون الجيّدة والناجحة، وهكذا تنمو لدى الأطفال مواقف إيجابية من القراءة.
في هذا السياق، يحكي أحمد من المغرب لـTRT عربي تجربته مع القراءة: "كنت منذ سنّ الطفولة قارئاً نهماً، أقرأ كلّ ما أجده أمامي، قصصاً وكتباً وحتى قصاصات أخبار على الجرائد، وكان جميع من حولي يقول لي إنني سأجنّ إذا ظللتُ على هذا الحال، لكنني لم أكترث لكلامهم. اليوم أنا إنسانٌ ناجح على المستوى المهنيّ والشخصي، ولم أُصَب بالجنون كما كانوا يقولون. أغلبُ هؤلاء ما يزالون يرتعون في الشوارع بلا شغلٍ ولا مشغلة".
القراءة.. النجاح والحرية والإبداع
قدّم أستاذ علم النفس دانيال ويلينغهام مجموعةً من النماذج الناجحة في كتابه عن تربية الأجيال على القراءة، ومن بينها تجربة مقدّمة البرامج الشهيرة حول العالم أوبرا وينفري، والأديب والشاعر المصري مصطفى لطفي المنفلوطي.
تقول أوبرا: "مثّلت الكتُب جواز سفري لحريتي الشخصية. لقد تعلمت القراءة في الثالثة من العمر، واكتشفتُ أن هناك عالماً شاسعاً ينتظر أن نغزوه خارج حدود مزرعتنا في المسيسيبي".
أما الأديب الشهير مصطفى لطفي المنفلوطي فقد بدأ القراءة في وقتٍ مبكّر من حياته، وانكبّ على حفظ دواوين الشعراء الكبار ودراستها مثل أبي تمام والمتنبي والبحتري وغيرهم... ومع الوقت لمَع نجمه في سماء الأدب العربي، وطوّر أسلوباً فريداً من نوعه، واكتسب صياغة في غاية البراعة وذوقاً فنيا متميزاً، كما استطاع أن يؤلّف كتباً رائعة، من أشهرها: "النظرات" و"العبرات".