هل قال لكَ أحدٌ يوماً ما: "لَمْ أَعُد أُشبِهُ ذَاتِي"؟ هَذا واحدٌ مِن مُؤَشِّرَاتِ مَا بَعدَ الصَّدمةِ، أنْ يصبحَ الإنسانُ مختلفاً عمَّا كانَ عليهِ، فقدْ يتغَيَّر كَمَا يتغيرُ لونُ المَاءِ إِذا مَا أَلقيتَ فيه صبغةً ما، لكنَّ الإنسانُ لا يتلقَى أصباغاً بل ضرباتٍ موجعةً في جدار روحه، تحيله كتلةً من البدن الذي يذوِي أو يزدهرُ لأن الضربة التي أوجعته جعلته إنساناً أفضلَ بعيونٍ مفتوحة ومنتبهة وحذرة، وبتعقلٍ متيقظ واتساعٍ روحي لمختلف الاختلافاتِ وقدرة تحمل جبَارة!
ما الصدمةُ؟ ما أنواعها؟ كيف يتعامل الإنسانُ معها؟ وهل تعامل الإنسان مع الصدمة يتأثر بتنشئتِه ومستوى وعيه ونضوجِه وقدرتِه على الاحتمالِ والتجاوز؟ ما التأثيراتُ السلبيةُ لأنواع الصدمات؟ كيف يمكن لإنسانٍ مصدوم أن يتعاملَ مع الكرب والإجهادِ أو يستغل محنتَه ويحولها إلى منحة؟ هل يتعافى الإنسانُ المصدومُ أم يتغيرُ إلى الأبد؟
الصدمةُ.. فزعٌ، هلعٌ، قلةُ حيلة!
يُعرف أ.أسامةُ فرينة، المتخصص النفسي في علاج الصدمةِ وكرب ما بعد الصدمَة، الصدمة النفسية بأنها "الشعورُ بالعجزِ التام وقلة الحيلة اتجاه موقف أو حدثٍ استثنائي تسبب في الفزع والهلع الشديد، وينتج عنه الشعور بالضغطِ النفسي لفترةٍ طويلةٍ، ويكون له آثاره وترسباته في النفسِ البشرية على المدى الزمني الطويل".
أما الدليل الأمريكي لتشخيصِ الاضطراباتِ النفسية، فيقر بوجود الصدمةِ النفسيةِ وتبعاتها لدى الشخص إذا توافرت عدة معايير، منها: إذا واجهَ الشخص حادثةً أو مواقفَ متكررة شكَّلت تهديداً مباشراً أو غير مباشر على حياتِه الشخصيةِ وسلامته، أيضاً إذا كانت ردة فعله نحو هذه الأحداثِ الصادمة تشمل: الفزع، الهلع، العجز الشديد عن التصرف.
وفي مناطق كمناطقِ الحروب والنزاعاتِ أو البيئات التي تسودها أوساط غير آمنة، يكون الإنسانُ عرضة للتعرض لصدمات متنوعة ومتكررة، أو قد يحدث لمرة واحدة كالتعرضِ لخسارة عاطفية أو للتحرش أو الاغتصابِ، فالصدمة أنواع مختلفة كمسبباتها المختلفة يبينها أ.أسامة فرينَة لــTRT عربي "للصدمة النفسية أنواعٌ تقسم حسب تكرارها ووقوعها، فهناك أحداث المرة الواحدة وهي تحدث لمرة وتكون بشكل مفاجئ غير متوقع كالتعرض لحوادثِ السير، وهناك الأحداث المستمرة والتي يكون تكرارها مقلقاً كالإصابةِ بأحد الأمراضِ المستعصية أو الاضطرار إلى التعايشِ مع أناس سيئين يهددون الصحة النفسية".
ويشير أ.أسامة فرينة لـTRT عربي إلى أشدِّ أنواع الصدمة النفسيةِ فتكاً بالإنسانِ إذ يقولُ: "تعتبرُ التجارب القاسيةُ التي تمت معايشتُها لفترةٍ زمنية طويلة هي الأكثر خطراً، كالجندي الذي كان في الحروب لسنوات وشاهد أحداثاً دمويةً أو فقد زملاءه مع عجزه عن إنقاذهم. فما يميزُ هذه الصدمة ويجعلها مهدِّدة للصحة النفسيةِ هي أنها كانت مفاجئةً، واستمرت لفترة من الزمنِ، كما أنها كانت أكثر دموية ومن تسبب فيها هم البشَر".
ما بعد الصدمةِ... انخفاضٌ حاد في جودةِ الحياة وإجهاد مزمن
أ.نبيلة عنابوسي، اختصاصيةٌ نفسية علاجية وتربوية، تقول لـTRT عربي: "هناك ما يُسمى باضطراب الكربِ التالي للصَّدمةِ النفسيةِ، فإذا لم يتم علاجها، فمن الممكنِ أن تكون طويلة الأمد وتمنع الإنسان أن يعيشَ حياته بطريقة طبيعيةٍ، إذ تقل جودة الحياة حينئذٍ، ويمكنُ أن تتغير بشكلٍ كامل، لكن هذا يتعلق بقوة الصدمةِ ومدى استمراريتها".
تؤكد أ.نبيلة أنه "في حالة شعور الإنسانِ المصدوم بالتوتر أو العجز أو الرعبِ مع العصبية الزائدة، وبقاء الإجهاد والتوتر لمدة طويلة بالترافقِ مع عدم إمكانية العلاج، فيمكنُ أن يؤدي به إلى أعراضٍ نفسية صعبة".
وعمَّا إذا كان هناك جانب إيجابيٌ للمرور بالصدمات النفسية تبين أ.نبيلة "في بعض الظروف تساهم الصدمة النفسية في إيجادِ طرقٍ للتعايش وتكوين شخصية قوية، وهو ما يعني أن الإنسانَ المصدوم في هذه الحالة تتطور حصانتُه ومناعته النفسية ولا ينكسر بسهولة أمام صدمات الحياة".
أما عن الجانب السلبي فتوضح "في بعض الحالات تتطور شخصيةُ الإنسان المصدوم إلى شخصية حديةٍ تعاني من الاكتئاب. والشخصية الحدية "borderline personality disorder" هي شخصية غير متوازنةٍ نفسياً، لها ردود فعل غير طبيعية خاصة في العلاقات القريبة، التي يكون بينها أثر مباشر في الصدمة أدى إلى اهتزازِ البنية النفسية والثقة بالذات".
ترسبات الصدمةِ.. كيف يمكن التخلص منها؟
تعرض المصدوم لصدمة واحدة أو متكررةٍ لفترة معينة يبقي أثرها معه طول الحياة، لكنه يملك زمام أمره من حيث العمل على تجاوزها وتفادي تبعاتها أو الاستسلام لآثارها وجعلها تسيطرُ عليه!
الإجهاد المزمن والشعور الدائمُ بالضغط النفسي أبرز ما يترافق مع المصدومِ، فكيف يتم التخلصُ من هذا العبء؟ هذا ما توضحُه أ.نبيلة لــTRT عربي "أولاً من المهم معالجةُ الصدمة النفسية، فالعلاج هو نتيجة وليس مشكلة، إذا عملنَا على حلِّ المشكلة الأساسية يتم التخلصُ من الإجهادِ، فمثلاً في حال شعور مريضٍ ما بارتفاع حرارته بسبب جرثومةٍ معدة فلا يكون الحلُّ هو العلاج بخافضِ حرارة فقط، بل بعلاج الجرثومةِ أيضاً بمضاد حيوي يقتلها، وهذا ينطبق على الصدمةِ فالعلاج منها بالأساسِ يقلل من كل المضاعفات النفسية لها".
تتابع: "إجهادُ ما بعد الصدمةِ نابعٌ من صعوبات في النومِ، التركيزِ، التيقظ المستمرِ إلى حد الإفراط للتحذير من المخاطرِ، ومن المهم في الدرجة الأولى العلاج النفسي المعتمدِ على العلاجِ المعرفي السلوكِي ليتسنى للمتعالج التخلص من ترسبات الصدمة والتحرر من الطاقةِ السلبيةِ وعدم وضع طاقاته فيها من خلال استرجاع الصدمةِ وأحداثها".
وتشير إلى أنه "في حالة عدم العلاجِ يصل المريض إلى الاكتئابِ الشديد ويعاني من الفوبيا، وعندها يتمُّ علاجه عبر الجلسات النفسية والعقاقيرِ الدوائية" .
وتختم أ.نبيلة حديثَها لـTRT عربي بالقول: "المصدومون نفسياً هم أقل قدرةٍ على السيطرة على ردود أفعالهم، ممَّا يؤدي إلى سلوكٍ متهور أو نوبات غضب، لهذا تفيدهم ممارسة الأنشطةِ الرياضية والهوايات، بالإضافةِ إلى التأمل وتمضية الوقت في الأعمالِ الممتعة لتقليل حدة الإجهاد وضغط ما بعد الصدمةِ".
وفي عالم اليوم، عزيزي القارئ، لا بدَّ أنك مررت بواحدٍ من المواقفِ السيئة، أو حدث ما لا يغادر ذهنك، فيبقى عالقاً هناك في مخيلتِك، وتراه أنت وحدك بشكلٍ متكرر أو يزورك بغتة، فيعيد إيلامك مراراً وتكراراً، لهذا ما رأيك أن تكونَ واعياً وناضجاً إلى الحد الذي تعقد معه العزم على إلقائه في سلة قاذورات الحياة؟ لكي تمضي قدماً وتواصل، فقطْ افعلْها، تذكر دوماً أنك قادرٌ على تجاوز الأشياءِ والحيثياتِ، واجعل وقودك في تجاوزِها هو طاقاتك التي تنبع منك وفيك.