شهر مارس/آذار هو شهر المرأة، الثامن منه هو يوم المرأة العالمي، والسادس عشر منه يوم المرأة المصرية، والحادي والعشرون عيد الأم.
سألنا في TRT عربي، ليس عن حقوق المرأة، بل عن صحتها النفسية التي تُعتبر أهمّ شيء تحتاج إليه المرأة لتقف وتناضل، تَلقِّي الدعم النفسي في نوبات اكتئابها وانهيارها هو حق أساسي يضمن الاستمرار في خوض تلك الحروب اليومية، بدءاً من التعرُّض للتحرش في العمل والشارع، إلى فقد الأهلية في الزواج والطلاق، وحتى حقها في الولاية، بل وحقها البسيط في خصوصيتها داخل بيتها. تواجه قانون أحوال شخصية يجور على حقوقها ومجتمعاً يراها دائماً تحتاج إلى وصايته عليها. هي تحتاج إلى كامل قواها العقلية والنفسية حتى تواجه كل هذا.
"كأي أم عانيت اكتئابَ ما بعد الولادة، لكن للأسف لم يستمرّ كثيراً، لأنه بعد أربعة أشهر شُخّص زوجي الشابّ مريض سرطان، فلم يكن لديّ وقت للاكتئاب، لكن بعدما رحل زوجي عاودني الاكتئاب بشكل عنيف ومرعب، طوال الوقت كنت أريد أن أُترَك في حالي، لا أريد أن أنهض من فراشي، ولكن مع وجود طفلي كان الوضع كارثيّاً وكنت أضغط على نفسي حتى أفعل أشياء بسيطة كالجلوس معه أو أن ألعب معه وأنا لا أريد ذلك. كنت أفقد أعصابي بسهولة وأنسحب من كل الأمور البسيطة الروتينية فزادني ذلك أحساساً بالذنب تجاهه"، هكذا وصفت هبة خميس، كاتبة مصرية ثلاثينية، لـTRT عربي، الدائرة المفرغة التي وجدت نفسها فيها ما بين الاكتئاب والإحساس بالذنب تجاه صغيرها. الاكتئاب عند النساء خصوصاً الأمهات يأخذ شكلاً آخَر مقارنة بالرجال، فلن تجد رجلاً يكتئب ويشعر بالذنب تجاه أبنائه، فهو ببساطة يبتعد تاركاً المسؤولية للأمّ.
يشير موقع مستشفى "mayoclinic" النفسي إلى أن احتمالات تشخيص السيدات بالاكتئاب تبلغ الضِّعف مقارنةً بالرجال. ويُمكن الإصابة بالاكتئاب في أيِّ سن. كما يرتبط بعض التغيّرات المزاجية والشعور بالضيق بالتغيُّرات الهرمونية المعتادة. ولكن لا تتسبّب التغيُّرات الهرمونية وحدها في الإصابة بالاكتئاب، بل تزيد العوامل الحيوية الأخرى والصفات الموروثة وظروف الحياة والتجارب الشخصية بزيادة الإصابة بالاكتئاب، فبدءاً من مرحلة البلوغ عند الفتيات تكون معدلات الاكتئاب أعلى منها عند الذكور. ولأن الفتيات عادةً ما يصلن إلى سنّ البلوغ قبل الأولاد، فهن أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب في سنّ مبكرة أكثر من الأولاد. يشير بعض الدلائل إلى أن فجوة الاكتئاب بين الجنسين قد تستمر مدى الحياة.
ويضيف الموقع في مقال مخصص عن الاكتئاب لدى السيدات وكيف هو مختلف عن اكتئاب الرجال: "ليس فقط مرحلة البلوغ قد تزيد احتمالية التعرض للاكتئاب، بل أيضاً مرحلة الحيض وما قبلها، وكذلك الحمل أو الإجهاض أو العقم، وحتى اكتئاب ما بعد الولادة، الذي تُصاب به 70% من النساء، وكذلك اكتئاب مرحلة انقطاع الطمث"، كلها تغيرات هرمونية مزعجة، ولكن الأكثر تأثيراً هو الظروف الحياتية والتربية والثقافة. تُشير الدكتورة ولاء محمد، استشاري العلاج النفسي للأطفال والمراهقين بالأمانة العامة للصحة النفسية، إلى أن إحساس الأمهات بالاكتئاب مختلف عن إحساس الفتيات غير المتزوجات، اللاتي ينبع معظم اكتئابهن من أفكارهن عن أنهن لسن جميلات، أو أنهن فاقدات الثقة بأنفسهن، وغير مقبولات في مجتمعاتهن، لكن الأمومة أحياناً كثيرة تكون هي القشة التي تقصم ظهرها.
يقول منشور لمستشفي "mayoclinic" النفسي، إنه على الرغم من أن هذه الضغوط الحياتية تحدث للرجال أيضاً، فإنها تكون عادة بمعدَّل أقلّ. وتتضمن عوامل إصابة النساء بالاكتئاب: المكانة والسلطة غير المتكافئة. من الأرجح أن تعيش النساء في فقر أكثر من الرجال، مما يسبّب مخاوف مثل عدم التيقن بشأن المستقبل وقلة إمكانية الوصول إلى الموارد المجتمعية والرعاية الصحية.
يضيف "mayoclinic" عامل الإجهاد في العمل، إذ "تعمل النساء غالباً في وظائف خارج المنزل مع تحمُّلهن المسؤوليات المنزلية. ويتعرض عديد من النساء لتحديات مسؤولية الأبوة من طرف واحد".
العامل الثالث حسب mayoclinic هو الاعتداء الجنسي أو الجسدي، إذ "تُعتبر النساء اللاتي تعرضن للاعتداء النفسي أو الجسدي أو الجنسي وهن أطفال أو بالغات أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب في مرحلة ما من حياتهن".
وبالطبع فالتمييز في الأجور بين الرجال والنساء يُشعرهن بأنهن على درجة أقل من الرجال على الرغم من أنها تؤدي نفس المهامّ الوظيفية، كذلك سلب حقّهن في الولاية على أبنائهن، كل هذا يزيد تعرُّض النساء للاكتئاب، فماذا تفعل الأم حين تكتئب؟ تنعزل وتترك أعباء الصغار، أم تواجه الاكتئاب؟
تقول هبة: "كنت أفقد أعصابي بسهولة وبشكل مبالغ فيه مع ابني، دائماً منسحبة من كل شيء يخصه، لا أريد أن ألعب معه ولا حتى أن أجلس معه، وهو طفل وحيد، فوجدتني أشعر بالذنب أكثر وأتعصب أكثر فيزيد إحساسي بالاكتئاب. دوامة كبيرة لا تتوقف، فقرّرت أن ألجأ إلى المساعدة؛ لجأت إلى أمي وأبي ليحملا عبء طفلي، ولجأت إلى طبيب رشّحَته لي صديقة"، تقول هبة لـTRT عربي، وتضيف: "سابقاً كانت لي تجربتان سيئتان مع طبيبين، لكن هذا الأخير شخّصني بالاكتئاب، وخضعت لجلسات علاج سلوكي وأدوية. في ما بعد بدأت أعوّد ابني أن لي وقتاً خاصّاً، ومع مرور الوقت تحسنتُ، بخاصة العلاج السلوكي الذي جعلني أدرّب نفسي على حيل نفسية أقاوم بها شعور الحزن قبل أن يتحول إلى اكتئاب، وبدأت أريد أن أخرج مع طفلي ونتجول ونرى أماكن جديدة".
تنصح الدكتورة ولاء، الأمهات اللاتي يعانين بوادر أو حتى أعراضاً قوية للاكتئاب بقولها: "يجب أن أعرف مبدئياً لماذا أنا حزينة، وأسمي السبب الرئيسي وأضع يدي عليه، وأتساءل: هل هو موجود بسبب أفكار حقيقية، أم هي مجرد أفكار تأتي فجأة تضربني وتذهب؟ كما أن من أهمّ تقنيات التعامل مع الاكتئاب أن نُكمِل حياتنا دائماً ولا نتوقف".
تضيف الدكتورة ولاء: "لو توقفنا فسنمنح الاكتئاب الفرصة ليبقى ويستمر، وإذا استمررتُ في حياتي ولو دون استمتاع بممارسة الأنشطة اليومية فهذا مع المدى الطويل له تأثير إيجابي عظيم، كما يُستحَبّ أن أنشغل في نشاط ما بكل حواسّي كاللعب مع طفلي، وهو ما نسميه (اليقظة الواعية)، لأن هذا سيشغلني عن التفكير في حزني، ولن يجد الاكتئاب وقتاً له في يومي إذا كنت لا أعطيه هذه المساحة من تفكيري".
تقول إيمان كامل، أم أربعينية لطفلين: "كنت أرى في الأفلام القديمة البطلة حين تنهار أو تنفصل عن حبيبها وتعاني الحزن والاكتئاب تذهب فوراً لتسافر وتجلس أمام البحر بلا عمل، بلا دراسة، بلا بشر، لا أحد يزعجها، كنت أتساءل: لماذا تتمتع هي بهذا الامتياز وأنا حين أعاني ظروفاً حزينة أو فقدان شخص عزيز قريب مني فلا استطيع التوقف، مضطرة إلى أن أكمل الدوران في الساقية، لا أستطيع أن أقول كفى وأذهب للجلوس على الشاطئ، ناهيك بتربية أطفال في الظروف النفسية الطبيعية يحتاجون إلى قدر من الاهتمام والانتباه، فما بالك بهذه المسؤولية وأنتِ لا تريدين شيئاً سوى الانعزال؟".
تؤيدها في هذه النقطة وتضيف على حديثها نهى بدر، أم ثلاثينية لطفلين وربة منزل: "هذا بالفعل ما نشعر به، حتى في ظروف المرض لا أستطيع أن أمرض في هدوء لأنني أم ببساطة".
عن التعامل مع الطفل في ظل الاكتئاب تنصح الدكتورة ولاء قائلةً: "يجب بشكل قاطع اللجوء إلى صديق أو إلى الأهل للمساعدة على تربية الطفل وتقضية وقت معهم، أو حتى الاستعانة بمربية تباشر الطفل إن أمكن، وبمدرس يساعده على الاستذكار". وتكمل: "على الجانب الآخر ابدئي وضع جدول يومي فيه أنشطة تُدلّلك وتتضمّن ما يُفرِحك، وأيضاً ضعي له جدولاً في الوقت الذي سيُمضيه عند جدته، وبهذه الخطوات سنحقق أكثر من هدف: أولا ستكونين ارتحتِ قليلاً من ضغطه، وعندما يعود إليك ستقدرين على استكمال اليوم معه، كما أن الطفل سيكون عنده أنشطة يؤدّيها وأهداف عندما يحققها يشعر بالمسؤولية بعدها والتزامه تجاه نفسه، وهنا يجب أن لا تشعري بالذنب، فعندما ترسلين ابنك إلى صديقتك أو إلى بيت والديك فأنت تحمينه من مشاعرك السلبية".
وعلى الرغم من أن الاكتئاب قد يكون له تأثير كبير في المصاب، فإن له علاجاً فعالاً، حتى الاكتئاب الحادّ غالباً ما يمكن علاجه بنجاح.
فإذا كنت تعانين علامات وأعراض الاكتئاب، مثل المشاعر المستمرة بالحزن، أو الشعور بالذنب واليأس، أو فقدان الاهتمام بالأشياء التي كنت تستمتعين بها سابقاً، وتغييرات كبيرة في نمط النوم، والتعب أو الألم غير المبرَّر أو الأعراض البدنية الأخرى مجهولة السبب الظاهري، أو مشكلات في التركيز، وتغيرات في الشهية تؤدّي إلى نقص أو زيادة ملحوظة في الوزن، أو الشعور بأن الحياة لا تستحقّ العيش، أو وجود أفكار انتحارية... فيجب أن تطلبي المساعدة فوراً؛ صحة المرأة النفسية هي عمادها في الحياة، فلن تستطيع المثابرة وتربية الأبناء والإحساس بالسعادة إن لم تكن قوية غير هشة، فالاكتئاب مع الأمومة هو مزيج بشع يجب أن لا تمري به دون مساعدة.