انتزعت الأعمال الدرامية التاريخية التركية في السنوات الأخيرة انتباه شريحة واسعة جدّاً من المشاهدين العرب، لا سيما الشباب منهم، تعالت على أثره أصوات كثيرة تتهمها بالتستُّر على أجندة سياسية غير معروفة، تستهدف المشاهدين بالعالم العربي، على نحو يكشف عن فكرتين أساسيتين.
من جهة، يقلّل هذا الاتهام القيمة الفنية والإبداعية لهذه الأعمال الدرامية، وهو ما تفنّده أرقام الواقع ومواقف المتتبعين. ومن جهة أخرى يُظهِر بجلاءٍ لجوءَ المشاهد العربي إلى الإنتاجات التركية دون نظيرتها العربية.
الأرقام تقول إن الأعمال الدرامية التركية ذات الطابع الرومانسي والاجتماعي، لاقت متابعة عربية كبيرة خلال السنوات الأخيرة، تجاوزت مشاهدات بعضها 80 مليونا.ً
هكذا يمكن اعتبار المسلسلات التاريخية التركية تدشيناً لمرحلة جديدة في علاقة المشاهدين بالعالم العربي مع المحتوى الدرامي التركي.
مرحلة جديدة تفتح الباب على مصراعيه للتساؤل عن الأسباب التي جعلت هذه الدراما تنتزع انتباه الشباب العربي.
تفوُّق واضح
يملك المشاهد العربي الشاب خيارات عريضة في أثناء البحث عن عناوين المسلسلات الدرامية التاريخية الجديرة بالمتابعة، ذلك أن سوق العرض الدرامية على مستوى العالم تحبل بالإنتاجات التي تتناول مختلف الأحداث التاريخية.
إلا أن الإقبال الكثيف للشباب العربي على الأعمال التركية ذات الطابع التاريخي يمكن أن يفسَّر، في رأي البعض، من زاوية القواسم الجغرافية والتاريخية والثقافية المشتركة بين العرب والأتراك، وفي رأي البعض الآخر، بالقيمة الفنية والإبداعية.
ولعل عدم توافر إنتاجات عربية تاريخية مرتبطة بالمنطقة بالشكل الكافي، وضعف جودة المسلسلات الموجودة، حسب هؤلاء، يمكن اعتبارهما من العوامل المفسرة لنجاح المسلسلات التركية التاريخية بالأوساط العربية.
"ضعف التكلفة الإنتاجية، وهشاشة الحبكة الدرامية، والسيناريو، لا شك تؤثر على المستوى الفني للأعمال العربية، خلاف الدراما التاريخية التركية التي تمتاز بإنتاجات ضخمة تتخطى كلفة الحلقة الواحدة منها مليونَي ليرة تركية حسب ما أوردت مجلة فوربس"، يؤكّد هيثم الأشقر الصحفي بجريدة الراية القطرية.
ويضيف في تصريح لـTRT عربي موضحاً تأثير الإنتاج الضخم على جودة هذه المسلسلات: "في نهاية المطاف تكون النتيجة النهائية جيدة، فيحظى المشاهدين بمتعة بصرية لا حدود لها، من حيث الديكور والملابس وتصميم المعارك".
الأشقر اعتبر أن مسلسل "قيامة أرطغرل" على سبيل المثال، شكّل مرحلة فارقة في العلاقة بين المشاهد العربي والدراما التركية.
"حتى بات عديد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي يضعونه في مقارنة مع المسلسل الأشهر بالعالم "صراع العروش"، وبات معه بطل المسلسل أيضاً معشوقاً للشباب العربي يحظى بحفاوة كبيرة في أي دولة عربية يزورها"، يوضح المتحدث.
رسائل الدراما التاريخية التركية
مما لا شك فيه أن فهم المشاهدين الأتراك للأعمال الدرامية التاريخية المتعلقة بالمرحلة العثمانية يختلف بالمقارنة مع المشاهدين بالعالم العربي.
فلإن كانت الرسائل المعبَّر عنها في هذه الأعمال تعمل أساساً على تعزيز تماسك الشعب التركي، وفق خبراء، وذلك عبر التذكير بالمراحل التاريخية الصعبة، فالمتلقِّي العربي يستقبلها بارتباط مع الواقع الذي تعرفه الشعوب العربية، والأحداث المأسوية التي يعيش على وقعها جل بلدانهم.
هذه الملاحظة يسجّلها مهدي عامري، أستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بالعاصمة المغربية الرباط، مشيراً إلى أن دوامة المشكلات التي يتخبط فيها العالم العربي، حسب تعبيره، من قبيل الإرهاب والعنف والتخلف وغياب الأمن، جعلت هذه المسلسلات تُدرَك بالنسبة للجمهور العربي "كأنها تقدّم حلّاً ولو سحريّاً لهذه المشكلات، ولو عن طريق الرجوع إلى الماضي".
ويرى عامري في حديثه لـTRT عربي، أن الهدف الرئيسي من هذه المسلسلات صحيح أنه يتمثل في إحياء الماضي العتيد والمشرق للحضارة العربية-الإسلامية في مرحلتها العثمانية، إلا أن متابعة ملايين المشاهدين العرب لها، خصوصا الشباب، قد تكشف أيضاً عن وجود أزمة داخل المجتمعات العربية.
وقال: "أخشى أن تكون المتابعة العربية الجماهيرية الغفيرة للأعمال الدرامية التركية التاريخية تعكس أزمة مجتمعات ليس لها القدرة على مواجهة الواقع، وتحديات المستقبل، وتكتفي بالنظر إلى الماضي والحنين إليه وتستمدّ منه القوة".
من جانب آخر يشدّد باحثون على أنه حينما نتحدث عن الصناعات السينمائية أو الثقافية عموماً، تبرز بالخصوص الرغبة في محاولة تشييد وخلق شخصية المُشاهد، أو إعادة تشكيلها، حتى تكون قادرة على مجابهة مختلف أنواع التحديات والمواجهات.
من هنا يصير الإبداع الدرامي واحدة من هذه المحطات التربوية الرئيسية في طريق انبثاق هذه الشخصية المنشودة.
ولعل رسائل ومضامين الدراما التاريخية التركية تقوم على أحسن وجه بأداء هذه الوظيفة في ما يرتبط بالمتلقِّي التركي تحديداً.
دراما مربحة
تحقق تركيا إيرادات مهمة من الإنتاج الدرامي، ففي حين كانت الصادرات التركية من الدراما لا تتجاوز 10 ملايين دولار خلال سنة 2008، قفزت إلى ما يناهز 350 مليون دولار سنة 2018.
تعني هذه الأرقام أن المبالغ الاستثمارية المرتفعة المخصصة للإنتاج، الذي قد تصل كلفة إنتاج ساعة واحدة منه في مسلسل تركي، نحو 100 ألف دولار، تعود في النهاية بالربح على أصحابها.
فلئن كانت هذه الإيرادات مرتبطة بمجمل الإنتاج الدرامي، من مختلف الأجناس، فالدراما التاريخية التركية بات لها أيضاً نصيب معتبَر في المداخيل الخاصة بالصادرات الدرامية التركية عموماً.
مسلسل "قيامة أرطغرل"، الذائع الصيت وسط المشاهدين العرب الشباب، والأكثر انتشاراً، استمر على مدى خمسة مواسم، اشترى حقوق بثه نحو 60 دولة، وبلغت نسب مشاهدته مستويات قياسية، مما جعله يحقّق نحو مليار دولار من الإيرادات.
في ضوء هذه الأرقام، أشار محمد جبرون، باحث مغربي في التاريخ، إلى أن المتابعة العربية الواسعة للمسلسلات التاريخية التركية تعكس القيمة الفنية لهذا المنتج التاريخي، على حدّ قوله، مورداً أن هذه المسلسلات استطاعت أن تنافس مجموعة من المُنتَجات الأخرى المتوافرة في السوق الدرامية.
وتابع في تصريح لـTRT عربي: "لا بد أن تركيا من خلال سياسة الدبلجة إلى العربية تسعى بشكل أو بآخر إلى تصحيح صورة تاريخية راسخة عنها، لا سيما في المشرق العربي، مرتبطة بالصراعات التي عاشتها الدولة العثمانية، وهي صورة غذّتها بالأساس الحركة القومية العربية".
هكذا نجحت تركيا في الارتقاء بالمسلسلات الدرامية إلى مرتبة القوة الناعمة، مما أفضى إلى تزايد مطّرد في عدد السياح العرب إلى تركيا، خلال السنوات الأخيرة الماضية، إذ أبدى عدد كبير منهم رغبتهم في تَعرُّف ملامح الحضارة والتاريخ التركي أكثر.