تراجع مردود المحاصيل الزراعيّة في الشّمال السوري خلال سنوات الحرب، بسبب ارتفاع أسعار المستلزمات التي يحتاجها المزارع، وتقلّص المساحات المزروعة نتيجة الحملة العسكرية لقوات النّظام السوري وحلفائه مطلع العام الماضي على أرياف حلب وإدلب، والقصف المتواصل على المنطقة التي تعتمد على الزراعة بشكل رئيسي، ونزوح الفلاحين تاركين خلفهم أملاكهم وأراضيهم التي أصبحت بوراً (مهجورة وغير مزروعة)، كما توقفت المؤسسات الزراعية عن العمل نظراً لتعرضها للقصف المستمر.
تكاليف مرتفعة
المهندس نزيه قداح معاون وزير الإدارة المحليّة والخدمات لشؤون الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة يتحدث لـTRT عربي بالقول: "تُعدّ الزراعة مصدر الدخل الأساسي لأكثر من 70 في المئة مِن سكان المناطق المحررة، ولها الدور الأكبر في الأمن الغذائي وتحقيق الاكتفاء الذاتي مِن المواد الغذائية الأساسية، إلا أنّ هذا القطاع تأثّر بشكل كبير كغيره مِن القطاعات الاقتصادية الأخرى، نتيجة الحرب التي يشنها نظام الأسد وحليفته روسيا على المنطقة".
ويؤكد المهندس على خسارة المناطق المحررة لمساحات كبيرة من الأراضي الزراعية الخصبة، وتقدر بـ51 ألف هكتار في ريفي حلب الجنوبي والغربي والشمالي الغربي، و30 ألف هكتار في ريف حماة الشمالي، و32 ألف هكتار في ريف إدلب الجنوبي والشرقي، بالإضافة إلى خروج مساحات كبيرة عن نطاق الاستثمار الزراعي نتيجة قربها من مناطق التماس وانتشار الألغام ونزوح أغلب سكانها، وعزوف الكثير مِن المزارعين عن زراعة أراضيهم.
ويلفت المهندس إلى تضرر التّربة الزراعية بشكل مباشر نتيجة القصف بمواد كيماوية سامة ومحرمة دولياً، بالإضافة إلى تجريف وحرق مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية والأراضي المشجرة، وتحوّل معظم الأراضي المرويّة إلى بعليّة نتيجة تدمير مشاريع الريّ أو قطع المياه عنها، تزامناً مع ارتفاع تكاليف استخراج المياه الجوفيّة بسبب ارتفاع أسعار المحروقات، مشيراً إلى الارتفاع الكبير في أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي وندرتها (محروقات، مبيدات، أسمدة، أدوات زراعية مختلفة) وبالتالي انخفاض إنتاجية المحاصيل المزروعة، إلى جانب ضعف القدرة التسويقية وارتفاع تكاليف التخزين.
أبرز المحاصيل
تتنوع المحاصيل الزراعية في الشمال السوري بين الحبوب (القمح والشعير) والبقوليات والخضراوات الموسمية، إلى جانب غناه بالأشجار المثمرة وأهمها الزيتون والتين، لكنّ المحاصيل كافة تقلصت زراعتها بشكل كبير، وخاصة المروية منها، وارتفعت كلفتها، نتيجة غلاء أجور النقل والحصاد، وأسعار الحراثة، بسبب ارتفاع أسعار المحروقات شمال غرب سوريا، والتي شكّلت عاملاً مِن عوامل تراجع الإنتاج والزراعة، بالتزامن مع موجة الجفاف التي ضربت المنطقة.
وعن أهم المحاصيل يضيف المهندس نزيه: "تغيب عن الشّمال السوري زراعة القطن والشوندر السكر، في حين يُزرع الشّعير بمساحات كبيرة لقلّة تكاليف الإنتاج وعدم الحاجة للري، إضافة للتوسّع في زراعة حبّة البركة والكمّون بسبب ارتفاع الطلب عليها وارتفاع أسعارها وإمكانية تصديرها، إلى جانب القمح والعدس والخضراوات الموسمية". مشيراً إلى انخفاض المساحات المزروعة بالبطاطا بشكل كبير في السنتين السابقتين بسبب ارتفاع تكاليف الزراعة، وانخفاض أسعار الإنتاج في السوق المحلية وعدم القدرة على التصدير.
ويلفت المهندس إلى ضرورة دعم المؤسسات الزراعية المحلية، وزيادة التنسيق بين الفاعلين في القطاع الزراعي، إلى جانب إعادة تأهيل مشاريع الري لزيادة المساحات المرويّة وتخفيض التكاليف، مع تأمين مستلزمات الإنتاج من مصادر موثوقة وبأسعار مناسبة لتخفيف الأعباء عن المزارعين، وتسويق الفائض من إنتاجهم في الدول المجاورة، ودعمهم في التوجه للطاقة الشمسية في عملية الري.
كما يُعاني المزارعون هذا العام من مشكلة قلة الأمطار وكثرة العواصف الهوائية وموجات الصقيع التي ضربت الشّمال السوري، وقد تركزت الأضرار على حقول البطاطا بشكل مباشر، وعلى زراعة الخضراوات المبكرة ضمن الأنفاق البلاستيكية بعد أن تسببت العواصف الهوائية بتمزيق النايلون الذي يغطّيها، ما جعل شتول الخضراوات مكشوفة، وعرضة للتّلف تحت درجات الحرارة المنخفضة.
المزارع أبو إبراهيم (50 عاماً) من مدينة أريحا يمتلك أرضاً زراعية تبلغ 10 دونمات، زرعها هذا العام بالقمح، وعن معاناته يقول لـTRT عربي: "اخترتُ زراعة القمح كونها تعتمد على الأمطار الشتوية، وبالتالي لا يتطلب تكلفة مرتفعة، غير أنّ قلّة الأمطار خيّبت توقعاتي وجعلت المحصول يتأخر".
ويشير المزارع بقلق إلى أنّه سيُضطر لسقاية المحصول مِن المياه الجوفية، وهي مكلفة نتيجة غلاء أسعار الوقود، ولا سيما الديزل، وهو المادّة الأولية لتشغيل المولدات التي تعمل على استخراج المياه من جوف الأرض.
ويؤكد المزارع أن محصول الزيتون أيضاً أصبح اليوم يواجه صعوبات جمّة، فقد أدّت حركة النزوح المتزايدة إلى إهمال الفلاحين أشجارهم التي تحتاج إلى سقاية وتقليم ومراقبة، ما جعلها عرضة للأمراض والآفات، وأدّى إلى ضعف مردودها السنوي وتدني كمية الإنتاج.
حلول بديلة
غلاء أسعار المحروقات دفع بعض المزارعين للعودة إلى استخدام الأساليب القديمة في الزراعة كالحصاد اليدوي واستخدام الخيول والثيران في حراثة الأرض، كما سعى كثيرٌ مِن المزارعين بعد النزوح لاستئجار أراضٍ زراعية للعودة لمهنتهم الأساسية، رغم ارتفاع كلفة الإيجار في الفترة الأخيرة، إضافة للجوء البعض لزراعة الخضراوات المبكرة ضمن ما يسمى بـ"الأنفاق" وهي عبارة عن بيوت بلاستيكية مصغرة، حيث يثبت مشمع نايلون فوق الخضراوات بارتفاع 50-60سم لحمايتها من الصقيع ودرجات الحرارة المنخفضة.
وفي ظلّ ارتفاع أسعار الخضراوات والمواد الغذائية، فقد لجأ كثير مِن الأهالي للزراعات المنزلية مِن خلال زراعة الخضراوات الموسميّة في المنازل أو بجانب الخيام بهدف تحضير المؤونة الشتوية أو تحصيل بعض المصروف اليومي.
منى الكيال (34 عاماً) نازحة مِن ريف إدلب الجنوبي إلى منطقة عفرين، تعتمد على ما تزرعه مِن خضراوات في حديقة المنزل الذي تسكنه، وعن ذلك تقول: "كانت الخضروات فيما مضى طعام الفقراء، ولكن غلاء أسعارها بات يرهق الكثيرين، لذلك وجدت في الزراعة المنزلية خطوة للاكتفاء الذاتي وتأمين قوت يومنا، حيث أعتمد اعتماداً كليّاً على ما أزرعه حول منزلي، وأُحضّر الوجبات اليوميّة ممَّا توفره لنا الأرض صيفاً وشتاء، وبذلك استطعنا التخلي عن شراء الخضراوات "غالية الثمن" من الأسواق".
جهود تركية لتحسين الزراعة
تبذل تركيا جهوداً مِن أجل إرساء الأمان وتوفير الظروف المناسبة لعودة الناس إلى الحياة الطبيعية بالمنطقة، ودعم الأنشطة الزراعية في الشّمال السوري بهدف تحسين واقع الزراعة وتقديم الخدمات للفلاحين. فعلى سبيل المثال قامت هيئة الإغاثة الإنسانية التركية "IHH" بإطلاق مشروع الدعم الزراعي في مناطق الباب واعزاز وجرابلس وغيرها، بهدف زراعة ما مساحته 22 ألفاً و680 دونماً مِن الأراضي الزراعية، وتشجيع المزارعين على استثمار أراضيهم وتحقيق دخل لهم.
وبحسب مسؤول المنظمة في سوريا حسن أكسوي فقد وُزّعت مؤخراً مادةُ الشّعير لحوالي 900 مزارعٍ، ومادة القمح لـ1400 مزارعٍ، بالإضافة إلى تقديم الأسمدة، حيث استفاد كل مزارع بـ200كغ من مادة القمح أو الشعير، إضافة لـ150كغ مِن سماد اليوريا و100كغ مِن سماد الفوسفات".
وبيّن أكسوي أن المشروع نُفّذ على مرحلتين، شملت المرحلةُ الأولى توزيع بذور القمح والشعير بالإضافة لسماد الفوسفات، وبعد شهر ونصف نُفّذت المرحلة الثانية بتوزيع مادة سماد اليوريا.
للزّراعة ارتباط وثيق بحياة الأهالي في الشمال السوري وقدرتهم على البقاء، لذلك يحاول المزارعون تحسين مستوى معيشتهم والبحث عن بدائل للنهوض بالقطاع الزراعي، وتخفيف وطأة الحرب والنزوح على مصدر رزقهم الأساسي.