يبدأ فيلم قطع من امرأة Pieces of a Woman ولا ينتهى. يبدأ الفيلم مباشرة بعرض لمدة 30 دقيقة متواصلة لمشهد إنجاب مارثا Martha لابنتها بينما يدعمها زوجها شون Sean في حضور مولّدة منزلية (قابلة)، وقد مثلت دور مارثا الممثلة فانيسا كيربي Vanessa Kirby المعروفة بأدائها لدور الأميرة مارغريت في مسلسل التاج The Crown، وترشحت لجائزة الغولدن غلوب كأفضل ممثلة عن دورها في الفيلم، بينما أدى دور شون الممثل شيا لابوف Shia LaBeouf.
صُوّر مشهد الولادة بشكل متصل، فعادة ما تُصوَّر المشاهد على أجزاء متفرقة ثم يُجمع بينها باستخدام تقنيات المونتاج المختلفة، لكن هذا المشهد تحديداً وعلى الرغم من طوله صُور في مرة واحدة متصلة كي تعمق الإحساس لدى الجمهور بدقة الموقف، يقول المصور بينجامين لوب Benjamin Loeb إن "هذا الأسلوب لم يكن مخططاً له منذ البداية لصعوبته. كانت الخطة أن يُصوَّر المشهد في ثلاثة أيام، ولكن عندما تناقش المخرج والكاتبة مع كل من لابوف وكيربي أبدى كل منما حماساً شديداً لتصوير المشهد في مرة واحدة، لقد كان هذا قراراً مفاجئاً نابعاً من حماس الممثلين".
يصف المشهد مارثا وهي على وشك الولادة في منزلها مع زوجها شون، وبينما تنتظر القابلة يباغتها اتصال تليفوني من قبل القابلة كي تخبرهما أنها لن تستطيع الوصول إليهما في الوقت الحالي لانشغالها بولادة أخرى، لكنها أرسلت لهما قابلة أخرى لتشرف على الولادة، وتمر الدقائق الأخيرة قبل الولادة مروراً بطيئاً عصيباً، نلاحظ بعض المؤشرات على احتمال وجود مشكلات في الولادة، لكن هذه المؤشرات ليست قوية بشكل كافٍ للتأكد، وهو ما يدفع بالتوتر إلى درجة أعلى في الواقع، فوجود مشكلة واضحة يعني الاتصال بالإسعاف وعدم وجود مشكلة واضحة يعني عدم وجود سبب للقلق، لكن وجود احتمال ضئيل هو أسوأ سيناريو ممكن، لأنه يترك الجميع في حالة من الجهل بماهية الخطوة التي يجب أن تُتخذ.
تستمر عملية الولادة على أي حال في هذا المناخ من التوتر حتى تصبح هذه المؤشرات قوية بما يكفي للقابلة لأن توجه بالاتصال بالإسعاف والذهاب إلى المشفى مباشرة، يتصل شون بالإسعاف بينما تحاول القابلة السيطرة على الموقف، هكذا تستمر عملية الولادة وتنتهى بنجاح، لقد ولدت مارثا طفلتها أخيراً، وصلت ابنتها الجديدة طفلة صحيحة جميلة لتحملها أمها بسعادة وتأثر وتتنفس القابلة الصعداء.
خلال ثوانٍ معدودة تبدأ أعراض الاختناق تظهر على الطفلة، في نفس الوقت الذي تصل فيه عربة الإسعاف التي كان شون قد طلبها من قبل، فيجري شون إلى خارج المنزل صارخاً ويصطحب رجال الإسعاف إلى الداخل بأقصى سرعة، لكن القدر لم يمهلها بضع ثوانٍ أخرى، فتموت الطفلة بين يدي أمها.
سيكون من الصعب ألا أتوقف عن الحديث عن الفيلم وأعبر عن مشاعري الشخصية تجاه ما آلت إليه هاته الثلاثين دقيقة، ربما يكون هذا أسوأ سيناريو يمكن حدوثه لحالات موت الأطفال أو فشل الحمل، وقدرة الإنسان على الصبر وتجاوز هذه المحنة ليس أمراً يمكنني الحديث عنه أو حتى التفكير فيه، وهو في واقع الأمر خارج قدرتي على الإدراك.
لقد نجح كل من المخرج كورنيل موندروسّو Kornél Mundruczó والكاتبة كاتا فيبر Kata Wéber في اختيار الحدث وكتابته وإخراجه في ثلاثين دقيقة متصلة بدت كأنها لا تنتهي.
يبدأ الفيلم ولا ينتهي
يظهر لنا بوضوح ما يرغب الفيلم في عرضه، الفيلم يتحدث عن امرأة كما نفهم من العنوان، ثم يعرض لنا معاناة امرأة مع جسدها لمدة ثلاثين دقيقة متواصلة، ثم تنتهي هذه المعاناة مع حادث فقد أليم من شأنه أن يحطم الاستقرار النفسي لأكثر الأشخاص عقلانية، ولا يبدو لنا أن الأمر سيتوقف عند هذا الحد، نشاهد مارثا بعد شهر من هذا الحادث الأليم تجوب الشوارع بينما يذكرها كل طفل تشاهده بابنتها، تركب المترو فتشاهد أباً يداعب أطفاله، وتدخل المحال لتتسوق فتشاهد الأطفال مع أمهاتهن. ربما تعتقد أن هذا متفهَّم بالطبع لكنه لا يميز المرأة بالضرورة وهي ملاحظة صحيحة بالطبع، لكن فيبر لن تترك لك مساحة كافية لتستمر في التفكير بهذه الفكرة بل ستعرض عليك مشهداً لمارثا تلتقي عيناها وطفلة صغيرة، تحاول الابتسام لها لكن ملامح الطفلة لا تتحرك، بل يلتفت انتباهها إلى موضع صدر مارثا. تتعجب مارثا من نظرة الطفلة فتنظر للأسفل وتلاحظ تبلل موضع صدرها بسبب إفرازه للحليب.
إن التحدي النفسي الذي تواجهه مارثا بعد الولادة لا يتوقف عند كونه تحدياً نفسياً وعاطفياً كما هو الحال مع زوجها شون، فبسبب علاقة المرأة المادية المباشرة مع الجنين منذ أول لحظة في الحمل فإن جسدها بالكامل يتفاعل مع الحدث. يقول الدكتور معتز محمد أخصائي أمراض النساء والتوليد في حوار مع TRT: "لا تمكن المقارنة بين علاقة الأم بطفلها وعلاقة الأب، بل إنني قد أذهب إلى أن علاقة الأب بطفله لا تبدأ إلا بعد الولادة، بينما تبدأ علاقة الأم بطفلها منذ أول يوم للحمل، وهي علاقة مادية حقيقية وليست مجرد علاقة رمزية، وتظل هذه العلاقة مستمرة وفي تجاوب متواصل طول فترة الحمل".
على الرغم من الصدمة النفسية التي يمر بها شون فإنه يستطيع الهرب من المشكلة إن رغب في ذلك، بل يمكنه أن يلجأ إلى قرارات متطرفة بعض الشيء لمساعدته، يستطيع أن يترك عمله ويتنقل إلى مدينة أخرى على سبيل المثال، بل يمكنه الانفصال عن زوجته والارتباط بأخرى، يمكنه فعل الكثير من الأشياء كي يفصل نفسه عن الحدث ويهرب من مواجهته، لكن المرأة لن يمكنها فعل ذلك لأنها حتى إن انفصلت عن كل ما يحيط بالحادث لتحاول نسيانه سيظل جسدها يذكره، ولن يتوقف عند ذلك بل سيذكِّرها بالحدث. لقد نجحت كاتا في إظهار التمايز بين معاناة ما بعد الولادة والفقد بين الذكر والأنثى ببراعة.. لمدة خمس دقائق! لقد بدأ الفيلم بفكرة محورية لكنه لم ينهها، بل توقف عن عرضها بعد خمس وثلاثين دقيقة بالضبط.
سيتحول مسار الأحداث كلية بعد ذلك، وسننسى التمايز بين مارثا وزوجها شون، وسنلاحظ تأثير الحادث على العلاقة بينهما كزوجين، سترغب مارثا بالتبرع بجسد ابنتها للبحث العلمي، بينما يرغب شون في دفنها، سيبكي شون متوسلاً ألا تتبرع مارثا بجسد ابنتهما، ستعده مارثا بذلك لكنها لن توفي بوعدها، هكذا يختلف الزوجان، وتبدأ علاقتهما في التأثر سلباً. تركيز الفيلم على هذا النوع من المشاكل لا يتوافق مع الوعد الذي وعده في البداية، لقد فقد الفيلم نقطة اهتمامه وهي المرأة وتحول إلى العلاقة الزوجية. يمكننا فهم الرغبة في الدفن بوصفها رغبة أكثر ميلاً للعاطفة بينما يميل التبرع بالجسد للبحث العلمي إلى الرغبات العقلانية، وهو الأمر الذي يمكن أن يتبادل فيه الزوجان الموقع وهو أمر غير متعلق بعلاقة كل منهما بالطفل بل التكوين النفسي لكل منهما.
تتمحور أحداث الفيلم بعد ذلك حول مشكلة أخرى وهي محاكمة القابلة، لا ترغب مارثا في محاكمتها ولا البحث عن تعويض بينما تضغط عليها والدتها وزوجها من أجل المحاكمة وطلب التعويض، وتظهر في خلفية الحوارات المقابلة بين الإنجاب المنزلي والإنجاب في المشفى، فقد كان اختيار الإنجاب في المنزل اختيار مارثا الذي أصرت عليه في المحكمة، قائلة إنها كانت ترغب في ولادة طفل بصحة جيدة، بينما تخالفها أمها الرأي ويتحول الضغط النفسي في الفيلم إلى التساؤل حول مدى فاعلية الإنجاب المنزلي، وهل هو الاختيار الأفضل أو لا؟ وهل ساهمت مارثا في حدوث هذه الكارثة باختيارها الإنجاب المنزلي؟ لكن الفيلم لا يستعرض القضية من أية زاوية بل يكتفي بتركها تحوم في خلفية الأحداث فلا يمكننا كمشاهدين تكوين موقف عقلاني من القضية بعد أن فقدنا الموضوع الأساسي للفيلم وهو علاقة المرأة بجسدها.
يقول الدكتور معتز: "بالنسبة إليَّ كطبيب يعتبر الإنجاب المنزلي أكثر صعوبة، لكنني أتفهم رغبة بعض النساء لفوائده النفسية، الإنجاب المنزلي بطبيعة الحال يحدث في منزل الأم ومن ثم في بيئتها المألوفة [...] لكن يشترط أن يكون الإنجاب المنزلي مخططاً وتحت إشراف متخصص ويجب الفصل بين القابلة في القرى في بعض البلاد العربية وبين القابلة في السياق الكندي وهو سياق الفيلم، فهي في هذه الحالة تكون متخصصة ولديها رخصة لمزاولة المهنة ومزودة بكل الأجهزة والمعدات التي تحتاج إليها للإشراف على عملية الولادة". أبدى الدكتور معتز قلقه أيضاً من أي احتمالات لحالات طارئة تحتاج إلى الانتقال إلى أماكن أكثر جاهزية على الرغم من قلة الاحتمالات، "إلا أنني كمحترف لا يمكنني تجاهلها". لم يَبدُ أن الفيلم اهتم بمناقشة القضية بالتفصيل أو عرض جوانبها المختلفة، بل ترك لدى المشاهدين مذاقاً بعدياً بأنه ربما تكون فكرة الإنجاب المنزلي ليست أفضل فكرة، وقد تكوَّن هذا المذاق غير الواعي نتيجةً فرعية للأحداث الدرامية للفيلم.
لقد بدأ فيلم Pieces of a Woman كفيلم يعرض خصوصية علاقة المرأة بجسدها لكنه توقف عند الدقيقة 35 ولم ينتهِ، ثم استكمل مدة عرضه متسعرضاً تأثير حدث الفقد على العلاقة الزوجية لكنه لم يتعمق فيها، وانتقل إلى النقاش حول قضية الإنجاب المنزلي لكنه لم يعرضها بل انتهت المحاكمة بشكل مسرحي عن طريق مونولوج ألقته مارثا عن كون القابلة غير مخطئة وأنها لا تطلب منها تعويضاً، وهو الأمر الذي يمكن فهمه في إطار كونها تدافع عن قرارها الشخصي بالإنجاب المنزلي وليس حكماً حقيقياً يفصل في الواقعة، لقد بدأ الفيلم بداية ثالثة لكنه لم ينهها أيضاً.