وتحرّك السلطان محمد بعد أن أتم خططه واستعداداته من أجل تحقيق الحلم الذي زرعه معلمه آق شمس الدين في ذهنه ومخيلته منذ نعومة أظفاره.
وكان المعلم آق شمس الدين من أكثر الأشخاص تأثيراً على الفاتح، حيث تقدم الشيخ برفقة جمع من العلماء طليعة الجيش إلى جانب السلطان الفاتح، الأمر الذي كان له عظيم الأثر في حثّ وتشجيع الجنود على تقديم الغالي والنفيس من أجل الاستمرار بمحاولات الفتح، خصوصاً بعد الظروف العصيبة وفترات الإحباط التي ألمت بالجيش العثماني أثناء حصارهم للقسطنطينية.
وبفضل الرسالة الصارمة والمشجعة التي بعثها الشيخ للسلطان، تمكن محمد الفاتح من مقاومة ضغوط بعض الوزراء وقادة الجيش المطالبين بضرورة فك الحصار عن المدينة والعودة بالجيش، ونجح في الدخول إلى مدينة إسطنبول فاتحاً صباح يوم 29 مايو/أيار 1453.
وبسبب الأثر العظيم الذي تركته رسالة الشيخ في السلطان وجيشة، فضلاً عن جهوده في غرس فكرة فتح القسطنطينية في عقل السلطان الشاب أثناء تعليمه وتنشأته، اعتُبر الشيخ آق شمس الدين بمثابة الفاتح المعنوي لمدينة إسطنبول.
الإحباط يدبّ في صفوف الفاتحين
أثناء حصار الجيش العثماني لمدينة القسطنطينية، وتحديداً يوم 20 أبريل/نيسان 1453، اخترقت أربع سفن إغاثة كان قد بعثها بابا الفاتيكان نصرةً للبيزنطيين ضد الدفاعات البحرية للجيش العثماني، ودخلت إلى المدينة المحاصرة عبر خليج زيتينبورنو، الخطوة التي تسببت في خيبة أمل كبيرة اجتاحت صفوف الجيش العثماني.
وبعد الإحباط الذي أصاب جيش الفاتح جراء حادثة السفن الأربعة، اجتمع بعض من أمراء الحرب والعلماء بالسلطان وطالبوه بفك الحصار غير المجدي عن المدينة والعودة بالجيش حقناً للدماء وحفاظاً على العتاد.
وعلى إثر ذلك، شخَّص الشيخ آق شمس الدين وضع الجيش في الوقت المناسب، وسارع بكتابة رسالة مليئة بالتعبيرات القاسية إلى السلطان كانت بمثابة نقطة التحول في حصار وفتح مدينة إسطنبول فيما بعد، حيث طالبه بضرورة اتخاذ إجراءات صارمة بحق الأصوات المعارضة المطالبة بفك الحصار، ووصفه لهم بالكفرة والمنافقين.
رسالة الشيخ آق شمس الدين لمحمد الفاتح
تركت رسالة الشيخ آق شمس الدين أثراً قوياً في نفس السلطان وجنوده، ورفعت من معنوياتهم، وبسببها قرر السلطان وقادة جيشه المضي قدماً في حصار المدينة وعدم التخلّي عن هدفه حتى يتم الفتح. ومن أبرز ما جاء في نص الرسالة:
"لقد جلبت حادثة السفن خيبة أمل كبيرة وحزن لقلبي، ظهرت فرصة مهمة لفتح المدينة، لكنّ هذا الحدث أخذ هذه الفرصة بعيداً، ومسار الأحداث انقلب علينا، وبسببه ارتاح الكفار وارتفعت معنوياتهم وعززت قواتهم وملئت خنادقهم بالجنود القادمين. لقد سبب هذا الحادث الكثير من المشاكل، أخطرها ما انتشر بين جنودنا من أصوات تقول إن وجهة نظرك كانت ناقصة، وحكمك وقراراتك كانت خاطئة، وأن صلواتنا لم تُقبل".
وأضاف "الآن ليست هناك حاجة للرأفة والرحمة، يجب على الفور تحديد ومعاقبة أولئك الذين كانوا السبب في هذا الخطأ الفادح بالإضافة للذين يعارضون المضي قدماً في الفتح، فضلاً عن عزلهم من مناصبهم. وإذا لم تقُم بذلك على وجه السرعة فسيحدث تراخٍ في صفوف الجيش عند المباشرة بهجوم جديد على قلاع وأسوار المدينة". منوهاً إلى أنهم مسلمون يفهمون لغة القوة والحزم ويقاتلون من أجل الغنائم والحياة الدنيا، وأن قلة منهم من يعرضون حياتهم للخطر في سبيل الله.
وطالب السلطان بضرورة إظهار قوته وسلطته والعمل بكل قوة وصلابة، وإعطاء القيادة للأشخاص قليلي الرحمة والليونة مِن الذين يمكنهم استخدام العنف واللجوء إلى القوة عند الضرورة، وذلك بالشكل الذي يتماشى مع الدين والشريعة، مذكّراً بالآية القرآنية الـ73 من سورة التوبة "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ".
وختم الشيخ رسالته إلى السلطان بقوله "اعلموا أننا نحبّكم وأننا بعون الله لن نهين وسنخرج سعداء ومنتصرين، والصحيح أنّ العبد يدبّر والله يقدّر ويحكم، والنجاح من الله بعد بذل كل جهد ممكن". وأضاف "عندما قرأت القرآن ونمت في حزن. الحمد لله، لقد شاهدت العديد من البركات والأخبار السارة التي لم أشاهد مثلها من قبل".
من هو الشيخ آق شمس الدين؟
اسمه محمد شمس الدين بن حمزة، المعروف بالشيخ آق شمس الدين، وبحسب المؤرخين فإنّ نسبه يتصل إلى الخليفة الراشد "أبو بكر الصديق"، ولد في مدينة دمشق عام 1389. اهتم الشيخ بالعلم والفنّ منذ نعومة أظفاره، فقد حفظ القرآن الكريم في سن السابعة، ودرس في أماسيا ثمّ حلب ثم أنقرة، وفي فترة وجيزة أصبح أحد أبرز أعلام الحضارة الإسلامية في العهد العثماني، وإلى جانب العلوم الشرعية برع الشيخ آق شمس الدين في مجالات الطب والفلك وعلم الأحياء والنباتات.
وبدأت شُهرة الشيخ عندما أوكل إليه السلطان مراد الثاني مهمة تربية تعليم ابنه محمد، فقد اهتم بالأمير محمد وأسهم في تكوين شخصيته وثقافته، وعلّمه المعارف والعلوم الأساسية كالقرآن الكريم والسنّة النبوية والفقه وأشهر اللغات التي يتكلم بها المسلمون في تلك الفترة (العربية والفارسية والتركية)، بالإضافة لعلم الفلك والرياضيات والتاريخ واستراتيجيات المعارك والحروب.
ورافق الشيخ آق شمس الدين الأمير الشاب محمد عندما أوكل إليه والده السلطان مراد الثاني إدارة مانيسا بهدف التدريب على الإدارة ونظام الحكم، واستغلّ الشيخ هذه الفترة من أجل تعزيز شخصية محمد الفاتح وغرس حلم فتح مدينة القسطنطينية، من خلال تكراره للحديث النبوي الذي يتنبّأ بفتح هذه المدينة المستعصية (لتُفتحنّ القسطنطينية، فلنِعمَ الأميرُ أميرها، ولنِعم الجيشُ ذلك الجيش).
وبعد تولي السلطان محمد للحكم بعد وفاة أبيه، بدأ على الفور بحشد الجيوش وإعداد الخطط من أجل تحقيق الحلم الذي غرسه معلمه آق شمس الدين في ذهنه منذ صغره. ليتحقق الحلم في فتح مدينة إسطنبول صباح يوم 29 مايو/أيار 1453 على يد السلطان محمد الفاتح، وهو في عمر الـ21 عاماً.