حالات تلف دماغ وجنون.. ما قصة انتحار أفراد من نخبة البحرية الأمريكية؟
كشف تحقيق لصحيفة "نيويورك تايمز" عن حوادث انتحار بين أفراد قوة العمليات الخاصة في البحرية الأمريكية (Navy SEALs)، إذ مات منتحراً ما لا يقل عن 12 من أفرادها خلال العقد الماضي، وذلك خلال وجودهم في الجيش، أو بعد وقت قصير من مغادرته.
جندي من قوات العمليات الخاصة التابعة للبحرية الأمريكية / صورة: AP (AP)

وبحسب التحقيق المنشور في 30 يونيو/حزيران المنصرم، تعرض أفراد هؤلاء القوة إلى شكل متكرر من موجات الانفجار المتكررة، ما سبب لديهم حالة من "تلف في الدماغ"، إذ تشير الدلائل التي حصلت عليها الصحيفة إلى أن "الضرر قد يكون منتشراً على نطاق واسع بين جنود وضباط قوة العمليات الخاصة الذين ما زالوا على قيد الحياة".

وأجرت دراسة لجامعة هارفارد قامت فيها بمسح أدمغة 30 شخصاً من قوات النخبة البحرية، ووجدت علاقة بين التعرض للانفجارات وتغير بنية الدماغ وضعف وظائف المخ، إذ كلما زاد تعرض الرجال لموجات الانفجار، زادت المشكلات الصحية ونوعية الحياة التي أبلغوا عنها.

أنماط "غير معتادة" في الدماغ

وأوردت "نيويورك تايمز" حالة جندي من قوات النخبة في البحرية الأمريكية "SEAL" يدعى ديفيد ميتكالف، توفي منتحراً عام 2019 بإطلاقه النار على قلبه في مرآب منزله بمنطقة نورث كارولينا، وذلك بعد ما يقارب 20 عاماً من خدمته بالبحرية.

وقالت الصحيفة الأمريكية إن "آخر عمل حاول ميتكالف القيام به هو إرسال رسالة مفادها أن السنوات التي قضاها جندياً في البحرية، تركت دماغه متضرراً للغاية لدرجة أنه بالكاد استطاع التعرف على نفسه".

وقبل وفاة ميتكالف بفترة قصيرة، رتّب مجموعة من الكتب عن إصابات الدماغ بجانبه، ولصق ملاحظة على باب المرآب كتب فيها: "الفجوات في الذاكرة، فقدان التعرّف، تقلبات المزاج، الصداع، الاندفاع، التعب، القلق، والبارانويا (جنون الارتياب) لم تكن تلك الصفات شخصيتي، لكنني عانيت منها، وكلها تتفاقم".

ووفق "نيويورك تايمز"، أطلق ميتكالف النار على قلبه، ليحتفظ بدماغه وتجري دراسته وتحليله في مختبر وزارة الدفاع في ميريلاند.

ووجدت نتائج المختبر الذي أُجريت فيه دراسة دماغ ميتكالف "نمطاً غير معتاد" من الضرر الذي لا يُرى إلا في الأشخاص الذين تعرضوا بشكل متكرر لموجات الانفجار.

وأكدت "نيويورك تايمز" أن "الأغلبية العظمى من تعرض قوات البحرية الأمريكية للانفجارات يأتي من الأصوات التي تطلقها أسلحتهم الخاصة، وليس من عمل العدو"، إذ يشير نمط الضرر إلى أن سنوات التدريب التي كانت تهدف إلى جعل قوات البحرية "استثنائية" كانت تجعل البعض بالكاد قادراً على العمل.

وتقول جيمي، زوجة ميتكالف، إنها ترى الآن أن "وفاته المفاجئة هي وسيلة لجذب الانتباه إلى المشكلة التي تؤثر في العملاء الخاصين"، مضيفةً في حديثها لـ"نيويورك تايمز" أن "ترك رسالة مقصودة لأنه كان يعلم أن الأمور يجب أن تتغير".

نتائج المختبر لم تصل إلى البحرية

لكنّ الرسالة التي أراد ميتكالف إرسالها إلى البحرية حول الخطر الذي كان فيه لم تصل نتائجها إلى البحرية أبداً، فمن جهة لم يُخبر أحد في المختبر قيادة قوات البحرية الخاصة "SEAL" بما توصل إليه التحليل، ومن جهة أخرى لم تسأل القيادة عن نتائج المختبر.

ولفتت "نيوريوك تايمز" بتحقيقها إلى أن حالة ميتكالف ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، إذ توفي ما لا يقل عن 12 من "قوة العمليات الخاصة بالبحرية الأمريكية" انتحاراً في السنوات العشر الماضية، إما في أثناء خدمتهم في الجيش أو بعد فترة وجيزة من تركهم الخدمة.

ووجد تحقيق أجرته "نيويورك تايمز" أن "عائلات الجنود بذلت جهوداً أدت إلى تسليم ثمانية أدمغة من أفراد عائلاتهم المتوفين إلى المختبر، وبعد تحليل دقيق، اكتشف الباحثون أضراراً ناجمة عن الانفجارات في كل دماغ من أدمغتهم".

واعتبرت الصحيفة أن النتائج حملت "نمطاً مذهلاً" و"تداعيات مهمة على كيفية تدريب قوات النخبة البحرية الأمريكية للعناصر"، لكن إجراءات الخصوصية في معامل المختبرات وسوء التواصل في "البيروقراطية العسكرية" أبقت نتائج الاختبار مخفية لمدة خمس سنوات.

ونقلت الصحيفة عن ضابط بحري مقرب من قيادة القوات الخاصة أعرب عن "صدمته وإحباطه" عندما أُبلغ بالنتائج، وقال الضابط، الذي طلب عدم ذكر اسمه "نحن نحاول فهم أبعاد هذه القضية، ولكن في كثير من الأحيان لا تصلنا المعلومات أبداً".

كما أشارت الصحيفة إلى أن "انعدام التواصل بين المختبرات التي أجرت الدراسات ووحدة العمليات الخاصة أدى إلى تجاهل قيادة البحرية لتهديدٍ محتملٍ بالغ الأهميةٍ لقواتها الخاصة المختارة".

ومثالاً على ذلك، كان عندما توفي قائد فريق "SEAL 1" انتحاراً في عام 2022، وكانت ردة فعل قيادة القوات حينها إيقاف العمليات التدريبية تقريباً ليوم واحد حتى تتمكن القوات من التعرف على طرق منع الانتحار، ووفقاً لأربعة أشخاص على دراية بالقضية، تبيّن لاحقاً أنّ دماغ القائد قد تعرض لأضرارٍ واسعةٍ ناجمةٍ عن الانفجارات، لكنّهم لم يبلغوا القيادة، ولذلك لم يناقشوا خطر التعرض للانفجارات مع القوات.

العلاقة بين التعرض لانفجارات وتغيّر بنية الدماغ

تشير الأدلة التي حصلت عليها "نيويورك تايمز" إلى أن ضرر تلف وتغير بنية الدماغ قد يكون منتشراً بالقدر نفسه بين القوات الذين ما زالوا على قيد الحياة.

وأُجريت دراسة في جامعة هارفارد مسحت أدمغة 30 شخصاً من المنتمين إلى وحدة العمليات الخاصة وجدت ارتباطاً بين التعرض للانفجارات وتغيّر بنية الدماغ وتدهور وظائف الدماغ، وكلما زاد التعرض للانفجارات التي مرّ بها الرجال، زادت المشكلات التي أبلغوا عنها في صحتهم ونوعية حياتهم.

وجرى تمويل هذه الدراسة من "قيادة العمليات الخاصة"، التي كانت في طليعة الجهود العسكرية لفهم هذه القضية. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أطلع المؤلف الرئيسي للدراسة كبار قادة القيادة، بما في ذلك من قوات البحرية الأمريكية على نتائجها.

وقال حينها الأدميرال كيث دافيدز، قائد العمليات الخاصة البحرية، التي تشمل قوات "SEAL"، في بيان: "لدينا التزام أخلاقي حماية الصحة الإدراكية وفعالية القتال لزملائنا".

وأضاف أنّ البحرية تحاول الحد من إصابات الدماغ "من خلال الحدّ من التعرض للانفجارات، وهي تشارك بنشاط في الأبحاث الطبية المصممة لتحسين الفهم في هذا المجال الحرج".

وسلطت الصحيفة الضوء على مسألة عدم وصول نتائج الدراسات إلى الأشخاص المعنيين، معتبرة أنها تقع على عاتق وزارة الدفاع التي تُنفق ما يقارب مليار دولار سنوياً على أبحاث إصابات الدماغ، وملياراتٍ أخرى لتدريب وتجهيز القوات، لكنّها تفعل القليل نسبياً لضمان أنّ أحدث الاكتشافات العلمية حول إصابات الدماغ توظف في ممارسات ذوي الرتب العسكرية العالية.

وقالت زوجة الملازم ميتكالف، إنها "رأت وفاته محاولةً للفت الانتباه إلى مشكلة واسعة النطاق"، وأضافت: "لقد ترك رسالة مقصودة، لأنه كان يعلم أن الأمور يجب أن تتغير". وعندما أُبلغت بأن المعلومات المتعلقة بدماغه لم تصل إلى قيادة قوات النخبة البحرية، تنهدت وقالت: "أنت تمزح معي".

أضرار بسبب مجموعة واسعة من الأسلحة

ووفق ما أوردته "نيويورك تايمز" بتحقيقها، يعترف الجيش بسهولة أنّ إصابات الدماغ الرضحية هي الإصابة الأكثر شيوعاً في النزاعات الأخيرة. لكنّه يكافح لفهم عدد هذه الإصابات التي تُحدثها موجات الصدمة التي تُطلقها مُشغّلات القوات نفسها.

وهنالك علامات تدل على أنّ الضرر قد يأتي من مجموعة واسعة من الأسلحة، فقد عاد أفراد أطقم المدفعية الذين أطلقوا آلاف القذائف في المعارك إلى ديارهم يعانون من الهلوسة والذهان، كما عانى أفراد فرق الهاون من الصداع وتدهور الذاكرة، بينما صار جنود آخرون وقتلوا جيرانهم بعد سنواتٍ من العمل بالقرب من انفجارات الدبابات والقنابل اليدوية في المعارك أو في أثناء التدريب، حسب الصحيفة.

ووفقاً للدكتور دانيال دانشفار، وهو رئيس إعادة تأهيل إصابات الدماغ في كلية هارفارد للطب، فـ"قد تؤدّي موجات الصدمة إلى قتل خلايا الدماغ من دون التسبب في أي أعراض ملحوظةٍ على الفور".

وأضاف دانشفار: "قد يصاب الناس من دون أن يُدركوا ذلك على الفور لكنّه يمكن أن تتفاقم الأعراض لاحقاً مع مرور الوقت".

وحسب الصحيفة، في كثير من الحالات، يعطي الأطباء الذين يعالجون الجنود المصابين تشخيصاً لاضطرابات نفسية لا تشخص الضرر الجسدي الكامن وراءها، والواقع أن الكثير مما يصنف على أنه اضطراب ما بعد الصدمة قد يكون ناجماً في الواقع عن التعرّض المتكرر للانفجارات.

وبلغ عدد حالات الانتحار بين العاملين والمحاربين القدامى في الجيش الأمريكي منذ عام 2001 حتى عام 2023 أكثر من 30 ألفاً، وهو رقم يعادل 4 أضعاف عدد الجنود الذين لقوا حتفهم خلال العمليات العسكرية في تلك الفترة، سواء في أفغانستان والعراق أم غيرهما، ما دفع وزارة الدفاع "البنتاغون" إلى البحث عن أساليب جديدة للحد من حالات الانتحار، حسب موقع "Army Technology".

TRT عربي