من شرق جبل الزيتون نحو القدس تطل ذهبيةً واضحة وضوح الشمس لكل زائر، قبة الصخرة التي شهدت معجزة الإسراء والمعراج ويحتفل بها المسلمون في كل عام، المكانة الدينية والروحية والجمالية جعلتها ترسخ في عقيدة المسلمين فباتت حمايتها والدفاع عنها واجباً عليهم، ولعل هذا الأمر هو ما دفع وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا" إلى وصف ترميمها بالشرف الكبير.
"تجديدنا لهلال هذه القبة شرف كبير وأهم عمل قمنا به" هكذا تصف وكالة "تيكا" تجديدها هلالَ القبة المشرفة، إذ تعتبر الوكالة وفقاً لمعلومات زودت بها TRT عربي أن "الهلال هو أعلى نقطة في القبة التي تحضن الصخرة الشريفة التي عرج منها الرسول. وعند ذكر مدينة القدس في أي مكان في العالم وليس للمسلمين فقط، أول شيء يخطر في البال هو قبة الصخرة المشرفة اللامعة، لذلك نشعر بالفخر لتجديد هلالها وترميم قبة السلسلة".
وتضيف: "بالنسبة إلينا رفع حجر من القدس وتنظيفه وإعادته إلى مكانه هو شرف عظيم لنا".
لطالما عملت الحكومة التركية والجمعيات الخيرية التابعة لها في القدس كجمعية "تيكا" و"ميراثنا" و"البراق" و"وقف الأمة"، فاتخذت أشكالاً متعددة تنوعت بين المشاركة الجماهيرية في المسيرات الشعبية وأنشطة التوعية والتثقيف التعليمية، والأنشطة الفنية والإعلامية والحملات الخيرية لدعم المقدسيين في رباطهم، وصولاً إلى ترميم المنازل والدكاكين والمقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين، وخاصة بالقدس.
تركيا تنقذ الآثار الإسلامية
عمليات الترميم التركية طالت العديد من المقدسات الإسلامية والمسيحية ودور العبادة خلال السنوات الماضية،إذ يعتبر الدكتور عبد الله معروف، وهو باحث ومتخصص في علوم القدس والمسجد الأقصى، في حديثه لـTRT عربي أن "تركيا أدت دوراً إيجابياً في ترميم تلة باب المغاربة بعد هدمها من قبل السلطات الإسرائيلية في فبراير/شباط 2007، إذ شاركت الأردن في إرسال تقرير إلى منظمة اليونيسكو حول عملية الهدم ونيتها ترميم التلة، في وقت رفضت إسرائيل ذلك من أي طرف، وطلبت أن تقوم هي بالترميم لكونها كانت تريد بناء جسر إسمنتي، فعمل الأردن على منعها بدعم من تركيا".
الجهود التركية امتدت لترميم الجدار الجنوبي للمسجد الأقصى في البلدة القديمة لمدينة القدس عام 2002 "رغم أنف هيئة الآثار الإسرائيلية"، بحسب تعبير الدكتور معروف.
ويضيف: "حدث انبعاج في الجدار بنحو مترٍ للخارج وكان معرضاً للانهيار، فأصرت السلطات الإسرائيلية على ترميمه عبر دائرة الآثار التابعة لها، وذلك وفقاً لرؤية دولة الاحتلال بأن أسوار القدس هي أسوار إسرائيلية، لذا صبت تركيا جهودها خلف الأردن في ترميم السور الذي بناه السلطان سليمان القانوني".
مقدسات تتطلب الترميم
عمليات الترميم والإعمار التركية التي طالت العديد من دور العبادة في المدينة المقدسة لا تخطؤها العين، لكن لا يزال هناك العديد من المقدسات التي تحتاج إلى ترميم عاجل بعد هدمها وتصدعها على يد سلطات الاحتلال الإسرائيلية التي تسعى إلى طمس قيمة هذه المعالم الدينية والحضارية العريقة.
ويؤكد الدكتور معروف لـTRT عربي أن "المعالم والمقدسات الدينية في القدس وتحديداً في البلدة القديمة تحتل نحو 90% من مساحة المدينة، تضم نحو 35 مسجداً بالإضافة إلى المسجد الأقصى"، مشيراً إلى كتاب "كنوز القدس" للمؤلف رائف نجم الذي تناول فيه عدداً هائلاً من المقدسات والأربطة والمعالم الأثرية في القدس المحتلة، التي تعود إلى عهود مختلفة كالأيوبي والمملوكي والعثماني.
المعالم والمقدسات الدينية في القدس وتحديداً في البلدة القديمة تحتل نحو 90% من مساحة المدينة، تضم نحو 35 مسجداً بالإضافة إلى المسجد الأقصى
وحول المساجد التي تتطلب ترميماً عاجلاً، يشير إلى "مسجد الحريري" الواقع في غرب المسجد الأقصى في البلدة القديمة، خاصة بعد هدمه بالكامل من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية بحجة الخلاف بين المسلمين والأرمن عليه، نظراً لموقعه الجغرافي بين حارة الأرمن وحارة الشرف، وهو حتى الآن مساحة فارغة متروكة"
إرث حضاري عثماني
الدولة العثمانية كانت آخر القوى الإسلامية التي حكمت القدس قبل الانتداب البريطاني الذي تلاه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، لذا فإن الدولة التركية وشعبها لهم ارتباطات عميقة بمدينة القدس وفلسطين ككل.
ويوضح المحامي والحقوقي المختص في شؤون القدس خالد زبارقة لـTRT عربي أن "الارتباط الأول والأهم هو الديني العقائدي والإسلامي، حيث إن القدس مدينة مقدسة تضم المسجد الأقصى المبارك، أحد المساجد التي يشد الرحال إليها، كما المسجد الحرام والمسجد النبوي".
أما الارتباط الثاني فهو تاريخي نظراً للحكم العثماني للبلاد الذي استمر أكثر من 500 عام، ومن ثم فإن المباني الموجودة حالياً في القدس تحمل طابعاً عثمانياً في الأساس، إضافة إلى الكثير من البنى والعمران الذي حدث داخل المسجد الأقصى خلال الحقبة العثمانية، وسمي بأسماء علماء وقادة ومجاهدين عثمانيين حكموا هذه المنطقة إبان الفترة العثمانية.
ومن أبرز هذه المعالم على سبيل المثال: "تكية خاصكي سلطان" التي أنشأتها زوجة السلطان العثماني سليمان القانوني، و"حجرة محمد آغا" التي تقع عند الجهة الشمالية الغربية المؤدية إلى صحن قبة الصخرة وأنشأها محمد آغا سنة 996هـ/1588م، و"محراب علي باشا" ويقع داخل ساحة الحرم بالقرب من باب القطانين، و"قبة يوسف" التي تقع على سطح صحن قبة الصخرة إلى غرب منبر برهان الدين وقد أنشأها علي آغا سنة 1092هـ/1681م، و"حمام السلطان" الذي يقوم على زاوية طريق باب الأسباط عند التقائها بطريق الواد وهو من القرن العاشر الهجري أي السادس عشر الميلادي.
وبحسب زبارقة، فإن هناك العديد من العائلات المقدسية التي تعود جذورها إلى تركيا قبل إقامتها في مدينة القدس في ظل الخلافة العثمانية، كعائلة الكردي التي انتشرت في جميع أنحاء فلسطين وتحديداً في اللد والرملة والقدس، وفي إربد في الأردن. بالإضافة إلى شعوب التركمان وهي إحدى أهم العرقيات التي تمثل الشعوب التركية التي كانت قبائل تتنقل في مناطق آسيا الوسطى، وانتقلت منها إلى آسيا الصغرى، وغرب آسيا، وشمال إفريقيا، وقد يصل عددهم اليوم في فلسطين إلى ما يقارب 30 ألف نسمة.
العديد من التقارير الإعلامية التي صدرت في الصحافة الإسرائيلية تظهر الدور التركي بمظهر سلبي، وتحاول وضع أسافين بين الدورين التركي والأردني.
ويؤكد زبارقة أن "المقابر الدينية تأخذ حيزاً كبيراً من عمليات الترميم التركية، لكون كثيرين من صحابة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام والشهداء والعلماء والمجاهدين والقادة مدفونين في مدينة القدس، وشواهد قبورهم موجودة حتى الآن في مقبرة مأمن الله، وباب الرحمة، واليوزفية وهي مقابر محيطة بالمسجد الأقصى أو تقع في مدينة القدس بشكل عام. هناك على سبيل المثال قبرا الصحابيين عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس المدفونين في مقبرة باب الرحمة الإسلامية".
مناهضة إسرائيلية لمشاريع الترميم
تنامي الدور التركي في مدينة القدس المحتلة أخذ حيزاً كبيراً من عناوين وسائل الإعلام والصحافة الإسرائيلية التي حملت في طياتها تخوفات إسرائيلية من تعاظم هذا الدور داخل المدينة المقدسة،في ظل التراجع الملحوظ لشعبية الدول العربية، ولا سيما الأردن صاحب الوصاية على المسجد الأقصى.
إذ يرى المحامي زبارقة أن"العديد من التقارير الإعلامية التي صدرت في الصحافة الإسرائيلية تظهر الدور التركي بمظهر سلبي، وتحاول وضع أسافين بين الدورين التركي والأردني، حيث يظهر الإعلام الإسرائيلي أن الدور التركي بدأ يؤثر على وعي المقدسيين وفكرهم وتعاطفهم مع تركيا، وهذا ما تحاول أذرع الاحتلال منعه".
ويعتبر زبارقة أن "حكومة بنيامين نتنياهو وأذرعها الإعلامية تحاول مناهضة الجهود التركية من خلال سياقين، الأول أن الدور التركي يحل بديلاً عن الدور الأردني في المسجد الأقصى المبارك، وهنا يسعون لتوجيه رسالة واضحة للمملكة الأردنية الهاشمية كي يدقوا أسافين بين الدورين التركي والأردني في القدس والمسجد الأقصى، بسبب تعاطف المقدسيين مع الدولة التركية على حساب تجاهل الدور الأردني أو دور السلطة الفلسطينية".
والسياق الثاني هو اعتبار أن الجهود التركية في تقديم المساعدات والمناصرة ومشاريع التثبيت على مدار السنوات الماضية شكلت خطراً على مخططات التهويد والأسرلة التي تحاول الحكومة الإسرائيلية فرضها على المسجد الأقصى.
وفي سياق محاولات التهويد والأسرلة، لفت الدكتور عبد الله معروف إلى مباني منطقة "معالوت" وهي المعروفة فلسطينياً باسم "الأدراج"، بناها الإسرائيليون في حارة الشرف وأطلقوا عليها اسم "حارة اليهود"، وهي مبانٍ جديدة أصبحت تغطي على الجزء الخلفي للجامع القبلي.
وفي عام 2009 أعاد الإسرائيليون بناء مبنى يعود للعهد العثماني بعد أن تم هدمه سابقاً، إذ جعلوه كنيساً يسمى "بيت هاخوربا" أي "بيت الخراب"، وأعيد بناؤه بشكل أوسع وأكبر بحيث تكون قبته واضحة في أفق مدينة القدس، بالإضافة إلى قبة الصخرة وقبة كنيسة القيامة.
ترحيب شعبي فلسطيني بالجهود التركية
الهجوم الإسرائيلي على المواقف الحكومة التركية تجاه القضية الفلسطينية ومناهضة كافة الأعمال الخيرية التي تقام في فلسطين، يقابله تعاطف وترحيب من الشعب الفلسطيني بشكل عام، والمقدسيين بشكل خاص، نظراً للدور الإيجابي والفعال الذي تقوم به تركيا في نصرة القضايا الفلسطينية.
"الشعب الفلسطيني يسعد عندما يجد من يمد يد العون له" انطباع أكده المصور الصحافي والناشط المقدسي محمد القزاز لـTRT عربي في تعبيره عن ترحيب المقدسيين "بجهود الترميم التي تطال الأماكن المقدسة والمنازل والدكاكين، في وقت يسعى الاحتلال بكل جهوده لتهميشها وتدميرها ووقف أشكال الترميم كافة"، معتبراً أن "الدولة التركية وشعبها يستحقون الشكر لاعتبار المقدسات الإسلامية في مدينة القدس من أولوياتهم".
ويؤكد أن "علاقة المقدسيين بالوفود التركية التي تزور المدينة علاقة طيبة جداً، حيث نلتقي بهم داخل المسجد الأقصى المبارك أو في شوارع البلدة القديمة، فالأتراك يشعرون أنهم بين أهلهم، ونحن نرحب بهم لإيماننا بأن زيارتهم القدسَ ليست بهدف التطبيع مع الاحتلال بل لأنهم معنا قلباً وقالباً".
"الارتباط التركي بالمقدسات الإسلامية تاريخ يمتد منذ زمن الدولة السلجوقية، وفي عهد أرطوك بيه الذي أدار القدس بعد الفاطميين أي قبل 1000 عام"، بحسب ما أكدته وكالة "تيكا"، فالتمسك بالمقدسات الإسلامية في مدينة القدس والحفاظ عليها من كل محاولات تهميشها وطمسها واجب عقائدي لدى الأتراك، خاصة بعد غيابهم على مدار 90 عاماً عن المدينة المقدسة في ظل الانتداب البريطاني والاحتلال الإسرائيلي. ولعل هذا كله تختصره وكالة "تيكا" بالقول: "نحن في القدس وفلسطين. عدنا لإعادة إحياء هذه الآثار، وهذا شرف لنا. ونعده وظيفة وواجباً".
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.