تضمنت الاستراتيجية التركية تحت حكم حزب العدالة والتنمية في التعاطي مع القارة السمراء عموماً ومنطقة القرن الإفريقي بشكل خاص مجموعة من السياسات الناشطة في مجالات مختلفة، بدءاً من دعم الاستثمارات التركية وانتهاء بتوسيع نطاق الدعم الإنساني.
وبرزت في هذا السياق الدبلوماسية الثقافية القائمة على تبادل المعلومات وترويج الفنون والجوانب الأخرى للثقافة بين الأمم لتعزيز التعارف والتفاهم المتبادلين، بما يندرج ضمن مفاهيم القوة الناعمة المعتمدة على التأثير من خلال القيم والأفكار بعيداً عن القوة العسكرية.
المدارس التركية في القرن الإفريقي
يعد التعليم أحد المداخل الهامة ضمن دبلوماسية تركيا الثقافية في القرن الإفريقي، وفي هذا السياق يدور دعم التعليم حول مجموعة من المحاور تتضمن أنواعاً من المدارس التركية.
حيث تلقى مدارس الأئمة والخطباء التركية إقبالاً كبيراً في المنطقة لمزجها بين التعليم الديني والكوني بسوية تعليمية مرتفعة، وهو ما يوفر لطلابها تجنب المدارس المحلية التي تعاني مشاكل جدية في سوية وأدوات التعليم، وكذلك تجنب المدارس الأجنبية التي تهمل الجانب الروحاني.
وفي هذا الإطار يتكفل وقف الديانة التركي بالمصاريف الخاصة بمدرستين ثانويتين "شيخ صوفي" في مقديشو عاصمة الصومال، و"فاتح سلطان" في إقليم أرض الصومال، وكذلك المصاريف الخاصة بكلية الحكمة للعلوم الإسلامية.
كما صرح قمبر تشال رئيس جمعية "أوندر" التركية المهتمة بمدارس الأئمة والخطباء في مقابلة للأناضول أن " أن مناهج هذه المدارس تُعلّم حالياً في 54 مدرسة بـ22 بلداً حول العالم، منها الصومال والسودان".
وبالإضافة إلى بناء المساجد وتوزيع آلاف النسخ من القرآن الكريم، فقد بدأ وقف الديانة بترجمة معاني القرآن الكريم إلى الأمهرية اللغة الرسمية في إثيوبيا لتوزيعها لاحقاً على المسلمين هناك.
بجانب مدارس الأئمة والخطباء تنتشر المدارس التابعة لوقف المعارف التركي في دول القرن الإفريقي باستتثناء إرتريا، وتضم هذه المدارس المراحل التعليمية ما قبل الجامعية وتستخدم فيها مجموعة من اللغات منها التركية، بما يتيح للطلاب الاقتراب من الثقافة التركية.
ففي جيبوتي التي تحتضن مدرستين تابعتين للوقف المذكور اختارت وزارة التربية والتعليم مدرسة وقف المعارف التركي أفضل مدرسة في البلاد لعام 2018/2019، كما يدير هذا الوقف 5 مدارس في إثيوبيا و7 في الصومال و6 في السودان.
وأنشأت الدولة التركية وقف المعارف عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها تنظيم غولن عام 2016، وأوكلت إليه استعادة المدارس التركية التي كان يديرها التنظيم في دول العالم.
تركيا تفتح أبواب جامعاتها أمام طلاب القرن الإفريقي
توفر تركيا العديد من برامج المنح الدراسية المختلفة لأبناء القرن الإفريقي، وتعد "منح تركيا" أهمها وتشرف عليها "وزارة التعليم العالي التركية" بالتعاون مع مؤسسة "رئاسة الأتراك في الخارج والمجتمعات ذات الصلة (YTB)".
وتقدر دراسة أصدرها معهد الوادي المتصدع مؤخراً عدد الطلاب الأفارقة الممنوحين بـ30 ألف طالب، معظمهم من الصومال والسودان.
وشهد عدد الطلاب من القرن الإفريقي تزايداً مستمراً، وعلى سبيل المثال فبعد أن كان عدد الطلاب الصوماليين لا يتجاوز 5 في العام الدراسي 2008-2009، وصل بعد خمس سنوات (2013-2014) إلى 683 طالباً، والمسجلون الجدد 142، وارتفع مجدداً عام 2015-2016 إلى 1383 والمسجلون الجدد 542، وفي العام الدراسي 2018-2019 بلغ عددهم 3764، منهم في العام المذكور 899 في الجامعات الخاصة التركية.
تتضمن هذه المنح دورات ثقافية للطلاب القادمين من خارج البلاد تعرفهم بالمجتمع التركي وطريقة الحياة في تركيا، كما يدرس هؤلاء الطلاب اللغة التركية التي تعد جزءاً من إعدادهم لتلقي التعليم في المؤسسات داخل البلاد.
توفر هذه المنح الفرصة للطلاب للتفاعل مع المجتمع التركي وإنشاء شبكات من العلاقات مع أبنائه، ورغم أن جزءاً من هؤلاء الطلاب يستقر في تركيا حيث يجد فرص عمل غير متوفرة في مواطنهم الأصلية، فإن الكثيرين منهم يعودون إلى أوطانهم حيث يلتحقون بالوظائف ويشكلون جزءاً من النخب الحاكمة في المستقبل، ما يساهم في تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية بين بلدانهم وتركيا.
معاهد يونس إمره .. تعليم للغة وتعريف بالثقافة
تنتشر سلسلة معاهد يونس إمره لتعليم اللغة التركية في القرن الإفريقي، حيث تقدم أنشطة في مجال تعليم اللغة التركية لغير الناطقين بها في المراكز الثقافية المُنشأة خارج تركيا، بالإضافة إلى تقديم أنشطة ثقافية وفنية بغرض التعريف بتركيا، وتقديم المساندة اللازمة للأبحاث العلمية المختلفة.
وعلى سبيل يشهد السودان إقبالاً كبيراً على تعلم اللغة التركية، حيث أعلن معهد يونس إمره مطلع عام 2018 قبوله 1000 طالب سوداني للدراسة في صفوفه التعليمية بالخرطوم.
كما نظم المعهد عام 2020 دورات اللغة التركية في مقر مستشفي نيالا السوداني التركي التعليمي بمدينة نيالا غربي السودان، واستهدفت الدورات موظفي المستشفى، والأطباء والطاقم الأمني، و عمال النظافة.
وفي إثيوبيا تم قبول 900 طالب عام 2018 في الدورات التي يقيمها المعهد بالتعاون مع 3 جامعات إثيوبية هي "أديس أبابا" و"وللو" و"مقلي".
وأوضح مدرس اللغة التركية في جامعة أديس أبابا قبلاي خان كالكان أن اهتمام الطلاب كبير جداً، قائلاً: إن "الطلاب يتنافسون على تعلم اللغة من أجل الفوز بمقعد في المدرسة الصيفية التي تعقد في تركيا (بمنحة من المعهد)".
ووقف يونس إمره مؤسسة حكومية تركية أُسست عام 2007 بهدف التعريف بتركيا، وتاريخها، وثقافتها، وفنونها، وباللغة التركية، وتقديم كل المعلومات والوثائق المتعلقة بهذا الصدد لجعلها محل استفادة من قبل العالم بأجمعه.
الدراما التركية في البيوت
وفي تحول لافت لاقت المسلسلات التركية في السنوات الأخيرة متابعة كبيرة من مواطني القرن الإفريقي.
وهو ما رصد جانباً منه تقرير نشرته فاينانشال تايمز في يناير/كانون الثاني هذا العام، حيث دللت على ذلك بتصارع زوجين إثيوبيين في حانة فندق في أديس أبابا على جهاز تحكم في التلفاز عن بعد، حيث يريد الرجل متابعة الأخبار في حين ترغب الزوجة في مشاهدة مسلسل تركي، وفي النهاية اختارا الدراما التركية المدبلجة باللغة الأمهرية. قائلين: "الحقيقة هي أننا كلينا نحب هذا العرض".
في حين أكد المؤسس المشارك في قناة "كانا" الإثيوبية إلياس شولزي أن المسلسلات التركية تمثل إحدى أدوات القوى الناعمة التركية الناجحة في بلاده.
ويحدد المخرج والمسرحي والناقد السوداني السر السيد مجموعة عوامل ساعدت على انتشار المسلسلات التركية في السودان، منها فشل الدراما المصرية في عكس الواقع وتراجع الدراما السورية بعد اندلاع الثورة السورية.
مضيفاً أن من ميزات المسلسلات التركية "الجرأة وبراح الحرية المتاح في كل تفاصيلها الاجتماعية"، واهتمهامها بالصورة والفضاء المكاني خاصة الأماكن السياحية التي تقع فيها الأحداث.
كما تمت دبلجة المسلسلات التركية إلى اللغة الصومالية حيث لاقت رواجاً كبيراً.
تمكنت الدراما التركية من الاستحواذ على اهتمام المشاهدين في منطقة القرن الإفريقي محققة هدفين رئيسيين: التعريف بالتاريخ العثماني القديم ("نهضة أرطغرل" مثلاً) والمتأخر ("السلطان عبد الحميد" مثلاً) من خلال رؤية تركية واستخدام الأدوات الدرامية التي تضفي على الحكاية التاريخية بعداً جديداً، ونقل صورة الحياة في تركيا الحديثة.
كل ما ذُكر يمثل جزءاً من دبلوماسية تركيا الثقافية في القرن الإفريقي، والتي تشكل أحد أوجه القوة الناعمة للسياسة الخارجية لأنقرة، التي تمكنها الحفاظ على مصالحها الحيوية وتوسيع نفوذها الجيوسياسي من جهة، ومواجهة خصومها الإقليميين والدوليين في منطقة تتزايد حساسيتها وأهميتها باطراد مستمر في السنوات الأخيرة.